أبوي و دولة ٥٦ والاستوزار (دايرلو شهادة اجازة وشهادة مرتب)

أبوي و دولة ٥٦ والاستوزار (دايرلو شهادة اجازة وشهادة مرتب)
بقلم :عمار عوض شريف
كان والدي عليه الرحمة فريدا من نوعه ، نعم كل ابن ينظر لأبيه على أنه الافرد، لكن كان أبي نسيجا وحده ومختلف جدا في كثير من صفاته والقيم التي يؤمن بها، وكانت لديه طرق مختلفة ليغرس فينا هذه القيم ، ومن ضمن ذلك تقديسه للعمل والوظيفة ، لذا كان فور ان يضع اي منا القلم بعد الامتحانات المدرسية يصحبه للعمل حيث يعمل معه في هيئة توفير المياه الريفية.
وبعد أن أنهيت امتحان المرحلة الابتدائية ( امتحانات ساته) اصطحبني للترزي في يدروم عمارة محمد حسين في امدرمان وياتيني الان صوته وهو يقول للترزي
_اقطع لي بنطلونين وقميصين للولد دا
=خلاص سايقو معاك الشغل ، خير ما فعلت انشاء الله نعمل لي قميصين يليقوا معاه
كتت في ذلك اليوم أكاد اطير من الفرح لاني سالحق باخي وأبناء خالي وعمومتي الذين كان اصطحبهم في اعوام قبلي للعمل معه في (تيم المهندس عوض شريف).
وكنت اسمع منهم جمل مثل الطلاسم التي كان امير ومحمد والفاتح ابن عمي يتعمدون ذكرها لاغاظتي مثل ( مليت التايمشيت، مشيت البيرسونيل ، الأوفر تايم الشهر دا طلعلي ، اتعينت بي بند التنمية او بند التدريب)، كانت جمل وكلمات ساحرة بالنسبة لطفل في عمري وقتذاك ١٢ عاما.
وفي أول يوم ارتديت بنطالي الجديد والقميص النص كم والجزمة من باتا ويا دنيا مافيكي الا انا زي ما بيقولوا
_ وكان ابي انيقا للغاية وتربية انجليز ذي ما بيقولوا يرى أن القميص باكمام طويلة لا يناسب السودان لأنه لا يلبس الا محشورا في البنطال مع الفل سوت وهذا مبحث اخر .
خلال هذه الفترة المبكرة من حياتي عملت مع والدي في هيئة توفير المياه الريفية في الرئاسة في كيلو عشرة _ الخرطوم لمدة ثلاثة اشهر فترة الاجازة المدرسية على امتداد ثلاث سنوات ، تحت بند التنمية الريفية قسم الحفر الجوفي .
كان يوم عجيب لن انساه ما حييت يوم ان دخلت البيرسونيل عشان امضي عقد العمال المؤقتين لمدة ثلاثة اشهر ، وبعدها عرفت كما التقيت
(الباشكاتب ) شخصيا وعرفت انه يقال له أيضا رئيس قسم الموظفين وهناك باشكاتب اخر ريسا لقسم شؤون العاملين والكوماندا وهو رئيس التيم اذا كان كوماندا تركيب او كوماندا حفر .
عبر هذه المعرفة الباكره أصبح العمل قيمة اساسية في حياتي مرددا دوما ما كان يقوله والدي
(الراجل عيبو الوحيد العطاله ).
كما استمعت لقصص مطولة في هذه الفترة من المهندسين الذين عملت معهم ( عثمان عبد الهادي وعمر الفاروق عبد الرحمن وعامر عثمان وغيرهم من المهندسين، سمعت قصص مثيرة عن طبيعة حياة السودانيين في قراهم والحلال والفرقان والدامرات ما جعلني دائما ما اتخيل مناطق بعيدة في اقاصي السودان مثل امبرمبيطه وغزالة جاوزت وخور برنقا ودار ام بادر وأم اندرابه وبوسري في بحر الغزال التي كتب الله لي أن اراها في سنوات السلام وهي التي قام والدي بتركيب صهريجها مع عثمان الهادي عندما كانا يعملون في مدينة واو .
لولا هذه المنحة الابوية لم أكن لاعرف قيمة العمل مرددا ما كان يقوله ابي دوما ( وكان نبي الله داؤود ياكل من عمل يده).
كما انني وصلت لقناعة في وقت مبكر إلى أن السودان بقيمه السائدة للان هو نتاج، الموظفين والمعلمين السودانيين هما من اوجدا ما يسمى (الشعور القومي الموحد ) لانهم كانوا يتجولون في أنحاء السودان كافة ويحملون معهم القيم المدينية ويرجعون بالقيم الريفية وهما من شكلا القيم الاخلاقية السودانية السمحة، لذلك اغتاظ كثيرا عندما اسمع سياسين في زماننا الاغبر هذا وهم يقولون ان( السودان ليس دولة قومية) او اخر يقول ( نريد أن نهدم دولة ٥٦ ) مع ان العيب ليس في دولة ٥٦ كما ان السودان دولة قومية بالفعل لديها قيم ومرتكزات اخلاقية شكلها جميعا المعلمين و الموظفين والعمال والجنود الذين كانوا يجوبون السودان كله يلقحون خلال تنقلهم هذا ما يعرف الشعور القومي بالانتماء ، مثلهم في ذلك مثل الريح التي تلقح الاشجار لتخرج الثمار ، وساعدت الصحافة والاعلام والمغنيين/ات والهلال والمريخ في نقل وترسيخ هذه القيم القومية .
لدي تنظيرة دائما ما اقولها لاصدقائي مفادها: ان السودان لم يتدهور الا بعدما اصبح السياسين كلهم منفرغين للسياسة ، ليس لديهم عمل معين او مهنة يكسبون منها رزقهم وتجدني اقول عندما
يرخي الليل بسدوله عضلة اللسان : ( الواحد تلقاهو عشرين سنة ما مضى في دفتر حضور وانصراف ولا كتب طلب اجازة ويقول ليك جذور الأزمة السودانية وهو لا بعرف امبرمبيطة ولا شاف صقع الجمل _ لا عرفنا داير يحل مشكلة السودان ولا داير يحل مشكلته الوظيفية)، طبعا هناك سياسين اشتهروا بوظائفهم ومهنهم لكن الكثير *(من الموجودين والفاعلين الان)* من الذين يريدون ان يحطموا دولة ٥٦ هذه الايام وبناء السودان من جديد لديهم شهادات بكالرويا لكن ليس لديهم عمل محدد يمتهنونه او تاريخ وظيفي ليتعرفوا على السودان بالسكنى والعمل لذا هم ليسوا حريصين على السودان الذي عرفناه
عبر ابائنا او عبر انفسنا .
اعتقد بشكل شخصي بعد هذه الحرب وعند مرحلة السلام والتاسيس يجب أن يحضر اي سياسي لتعيينه في وظيفة حكومية او وزارة ببيان ليس ليوضح ثروته او إبراء ذمة مالي ولكن ان يأتي ب(شهادة مرتب لآخر عشرة سنوات في حياته) ثم بعد ذلك ننظر في كفاءته وقدرته على البناء من جديد ، كما عليه ان ياتي بشهادة اجازة من عمله الحالي لنعرف نحن السودانين انه لن يكنكش في الوزارة والسياسة مثل ما فعل كثيرون في حكومات الديمقراطية او حكم الكيزان أو حتى في وزارة الانتقال الاخيرة ، ولا كيف وكيف ؟؟!.