رأي

“يلاك بعيد نرحل على دنيا حنيه”.. منارات السماحه في زمن الحرب

“يلاك بعيد نرحل على دنيا حنيه”.. منارات السماحه في زمن الحرب
بقلم : محمد أمين ابو العواتك
دخلنا مدينة دنقلا عند منتصف الليل بعد ان بلغ بنا التعب ما بلغ بسبب القيادة المتواصلة من مدينة كسلا شرقي السودان ونحن نقطع الشاسع بحوالي ١٣٠٠ كيلو متر من تراب الوطن الحزين الذي يمحص هذه الايام بكل هذا المقدار الاليم علنا نعي المشيئة الالهية التي تمثل إرادة الفعل الحادث..طوعا او كرها.
وكما يقال الشر يعم ، بما نسمع من السوء المنتشر استغلالا لظروف الناس في الحرب مع حركة التنقل واللجوء الداخلي في عدة مظاهر كالارتفاع الفلكي للايجارات وغيرها من اسعار خدمات النقل و البضائع بصوره فاقت كل تصور بما لم يشهده اهل بلادي في هذا الزمان …
ولكن
هل انطفأت
نيران المكرمات في بلادي؟
وقيمنا المتوارثة السمحه
من اغاثة الملهوف
ونجدة المحتاج..
وضيف الهجعة
ومرحب حبابكم
و قولة ” حرررررم”
بكل تلك الاريحية رغم تقلبات الظروف والاحوال والاقتصادية عقب تجربه حكم طويلة شهد فيها المجتمع السوداني تقلبات معيشية وسياسات اقتصادية في غاية الصعوبة كان لابد ان يكون لها اثار اجتماعية عميقة ..

لكن هل هذا الاثر بمثل ماهو منتشر من احاديث سالبه؟

كانت هجرتي من دياري واجبة بعد ان استحال البقاء فيها تماما بعد مرور ما يقارب الست اشهر من الحرب ، حفاظا علي الارواح حتي لا نقع في المحظور و مخالفة الامر الالهي في التنبيه القراني الحاسم في ما يتعلق بروح الانسان المكرم من عند الله (..الم تكن ارض الله واسعه فتهاجروا فيها) اما الممتلكات فلقد استودعناها الملك والحافظ سبحانه ، وكانت فرصه للتعرف علي مساحات جديدة في الدواخل تأملا وتدبرا في احساس انك بلا دار مستقرا فيها والغوص في عمق معاني الهجرة ومعك اسرتك وكل تلك الاحتياجات المتشعبة للاجيال و رايت فيها فرصة للتنقل في جغرافية واسعه للغايه قصدت فيها ان احل ما استطعت ونحن متوجهين لهدفنا في محطات للسلام علي المعارف و ايضا التعرف علي الناس وتلمس الاشياء علي الطبيعة بكل ذلك السلام واليقين وما اعظم الهدي النبوي ( تعلموا اليقين وعلموه ابناءكم).

اولي المحطات كانت في الجزيرة علي تخوم مدني العاصمة في قرية القريقريب الوادعه علي ضفاف النيل الازرق وميراث الكرم الاصيل والضيافة التي لا تتركك لحظة لوحدك كانت ليلتنا الاولي التي اغدق علينا الاهل هناك بكل شئ حتي ادق التفاصيل لايزالون يتحلقون عليك خدمة حتي المنام ..وفي الصباح الباكر ذبحت الكرامة وبالكاد نجحنا في اقناعهم بالسماح لنا بالسفر والمواصلة شرقا لان مشوارنا سيكون طويلا و تم ذلك بشق الانفس بعد مفاوضات طويلة وابتدأت رحلتنا شرقا..فما اكرم اهل بلادي..واخرون ينتظرون في عاصمة الجزيره ود مدني للقيام بالواجب..ورغم ما سمعناه عن ارتفاع اسعار الايجار هناك فلكيا الا ان ذلك لا يعني وجود جانب مضئ اخر في الصورة لاخيار بلادي هناك من الذين فتحوا قلوبهم وديارهم للاهل والمعارف كالحبيب عاطف متوكل جعفر الذي ترجانا بالمرور والمبيت ولعله ينتظر حتي الان ولا يعلم ما طرأ من تغيير حتم علينا المرور سريعا عبر المدينة من خارجها واخي الحبيب الصادق خليفة الذي استسمحناه ..هي قصص متعددة تبرز الجانب الاخر من حكاية انسان بلادي الاصيل و اعرف هناك من اخلي مسكنه لبعض الاسر بلا مقابل وانتقل للسكن في البيت الكبير.

تجاوزنا القضارف كسبا الوقت و كان استقبال الاصدقاء في كسلا الوريفة فوق الوصف فرتبوا حجز المكان واكرموا و فادتنا وتفنن عاشقها الاخ حمدي حسن في رعايتنا طوال ايام اقامتنا كرما ولطفا ولن انسي أطايب “السلات” و ” الليمون نعناع ” و بالطبع جلسات القهوة الكسلاوية المميزة…
وانت في كسلا لابد من المرور بجبل التاكا وتوتيل و لاشك انك ستدندن و ستسمع صدي ذلك الصوت المهول التاج مكي ياتيك من تلقاء الجبل:

فايت مروح وين وين ما لسه الزمن بدرى
خليك شوية معاى عشان جنبك يطول عمرى
دار الفرح والريد تلقانى من اهلا
لى الما بيعرف طيبة شباب كسلا
بين الضفائر بان وجه القمر طلا
وكيف قلبى يتصبر صبرنى يا الله
فايت مروح وين
يا اجمل الحلوين يا احلى ياسمينا
ما لينا غيرك اهل انت الاهل لينا
لمتين مراكبنا ترسى وترسينا
على وادى اسمو القاش والغيم حوالينا

علي ان احلي مافي ايام كسلا انها كانت فرصة ان نلتقي بمن سكب روحه عشقا ومحبة متوجا اسمه “كرئيس جمهورية الحب بالسودان” صاحب الكلمات اعلاه شاعرنا الكبير اسحق الحلنقي واللقاءات والجلسات التي جمعتنا مع الحبيب و ذاكرة الفنون و الابداع الاستاذ مصعب الصاوي الذي كان هو السبب في ان تكون كسلا هي المحطة الاولي في الرحلة لانها كانت اول مرة نفترق فيها لمدة طويلة قاربت نصف العام ..

أبو باسل الوطن:
وبوجوده مع الحلنقي والفنان عادل مسلم والاخ حمدي يمكنك تخيل كل ذلك البوح الجميل لاسيما وروح الحلنقي كانت في الجغرافيا التي يحب و يعشق.
لم يترك اهل كسلا شيئا بل رتبو لنا اقامتنا في وجهتنا القادمة من الرحلة في مدينة عطبره في مكانين الا ان وصولنا المبكر لها ثم قرارنا كسب الوقت ومواصلة الرحلة حتي دنقلا ..
فلم نتمكن من تلبيه دعوة سعادتو وليد حسن في عطبره الذي ظلت تلفوناته ورجاءاته تطاردنا واعتذرنا له بصعوبة…
و لن أنسي ابدا اريحية ذلك الرجل الفاضل (أيمن) الذي قابلناه للمرة الاولي في متجره في محطة الوقود بعد مدينة هيا مباشرة في قلب تلك الجبال والصحاري والذي قام بخدمتنا بعدد من التسهيلات وعندما علم اننا كاسرة سنقضي الليلة في عطبره ولا نعرف احدا هناك اصر اصرارا كبيرا ان ناخد رقم هاتف اخيه وان لديه بيت واسع كبير وسجلناه للتاريخ و مستقبل الايام ..
وفي الطريق مررنا بالباوقة ..المدينه الحلم واهلها الاماجد وكنت اعلم وجود “المانجل” والقطب الاتحادي طارق الياس هناك مستضيفا عددا من الاحباب من ام درمان بعد استباحتها …اتصلت عليه مسلما ومعتذرا باني قد تجاوزت الباوقة دون المرور عليهم وسؤاله الكمين : انت وين هسا؟
فعلمت ان في الامر قرارات واعطيته مكانا ابعد مما انا فيه بمحاذاتهم لعلمي المسبق باصراره علي ان نقضي معهم الليلة .

وصلنا مدينة دنقلا منتصف الليل ولان هذه المحطة لم تكن اقامتنا فيها منسقة نسبه لقرارنا السابق بعدم المبيت في عطبره كسبًا للوقت…
و رغم ان لنا فيها عديد من الاحباب الا ان الوقت المتأخر حال دون ازعاجهم ولرغبتنا في ان تكون هذه المرة تجربه حقيقية لقياس عن ما سمعنا من استغلال لظروف الناس ولائيا وهو إن حدث بنسبه غالبه فهو لايعني عدم وجود الجانب الاصيل من الصورة والمواقف المشرفة من معادن اهلنا التي لم تغيرها ظروف ولم تهزمها سياسات اقتصاد واثارها الاجتماعية الكريهة..لتمثل منارات اخلاق يجب ابرازها للأجيال للحفاظ علي جمرة هذه الاصالة متقدة.
ابتدأنا في البحث عن مكان للمبيت فيه و مررنا علي كل فنادق دنقلا .. المدينة المدهشة التي هزمت كل توقعاتي لاجد مدينة عصرية رائعه
بعدد كبير من الفنادق والشقق المفروشة الحديثة و بالفعل كانت المدينة ممتلئة بالكامل ويمكنك ملاحظة ذلك من عدد العربات اسفل كل بناية وانتقلنا الي المستوي الاقل بحثا عن “اللكوندات” او ايجارات الاهالي علي مستوي الاحياء وزرعت عربتنا المدينة ذهابا وايابا سؤلا ثم وصفا ثم بحثا ..
ثم توقفنا في احد نواصي الاحياء السكنية عند مجموعه من الشباب سؤالا… فاجاب احدهم مشيرا الي احد البيوت وعندما تحركت عربتنا امامهم صرخ احدهم بالتوقف وتوقفنا ونزل له احدنا وتحدث مطولا ثم محادثة هاتفية له قبل ان يسبقنا الي شارع جانبي ..
وعندما حضر من نزل منا للحديث معه سالته:
ماذا هناك؟
فاجاب ان الشاب اعتذر بانه لم يلاحظ باننا اسرة
وان هناك ترتيب اخر ..
وانه اتصل باخرين من اسرته طالبا منهم ان يقضوا ليلتهم في مكان اخر وانه سياخذنا الي منزله..
وانه حاول معه ان يرشدنا فقط الي مكان للايجار الا انه كان مصرا طالبا منا التحرك لمقابلته بالشارع الاخر الواسع وعند وصولنا الي المكان وجدناه قد فتح باب الشارع الكبير علي مصرعيه لادخال العربه داخل المنزل رافضا اي حديث وقد كان ..
وسرعان ما جهز السراير في ذلك البيت البسيط الانيق الذي هو بيت اسرته وسرائر في الجانب الاخر له والابناء الذكور ..
احضر حافظة ماء بارد وبعض الخبز الحار والجبن الشهي واشار الي دورة المياه وان ناخذ راحتنا وغادر الي الجانب الاخر من المنزل..
كان التعب قد بلغ منا مبلغا وسرعان ما تمددنا في ذلك الحوش الجميل مع تلك النسائم الباردة وكل تلك السعادة علي الموقف والانسان ونمت ليلتها والابتسامة مرسومة علي ملامحي فرحا بجذوة الاصالة التي لاتزال متقدة ولم يفلح عمق المنام في ازالتها حتي الفجر..
في الصباح الباكر شكرته بعد ان تجهزنا للمغادرة وكنت قد انتحيت بمن تحدث معه بداية و قضي الليل معه في الجانب الاخر متسائلا عن هل من مدفوعات ام ان الامر سوداني بحت؟
وقال لي هذا انسان سوداني اصيل و ود بلد وكانت افاداته وافية.. وعندما حضر اوضحت له ماذا عني هذا لنا وكم اسعدنا وان شكري له من باب من لم يشكر الناس لم يشكر الله..
وعلمت منه ان اهل هذا الحي قد اعدوا مكانا لكل من نزح الي المدينة خاص بالرجال فقط وهو الذي ارشدنا له بداية بينما الاسر تتم استضافتها في البيوت معهم مثل حالتنا ويدفع كل فرد من الحي في كل يوم مبلغ ١٠٠٠ جنيه لاعداد الوجبات وهم علي هذا الحال منذ بداية الحرب..
خرجت من دنقلا سعيدا بالمكان وانسانها والروح الاصيلة للانسان السوداني التي لم تبدلها النوائب..

استمرت رحلتنا وكان المني ان نتوقف قليلا قبل دنقلا في كريمة ومروي ولم نفعل الا لحظات لتأمل الجبل المقدس البركل وبعد ذلك في ديار المحس عندما ذكرت زوجتي شيئا عن البلح واشجاره وموسمه ولعلمنا بعلاقة العشق بينهما ..
ذكر لها اخيها اسماعيل الخبير بهذه الدروب فلقد عمل فيها لفترات متعدده قائلا:
“تعرفي اذا قمنا بطرق اي باب في هذه البيوت سترين وجها جميلا للكرم السوداني وساقوم الان بتجربة معك”
وتوقفنا امام باب ومحل ودخل وسرعان ما عاد يحمل صينية ضيافة جميلة بها بلح حديث الحصاد يكاد عسله يقطر ولايمكن وصف حلاوة الطعم فانقض الجميع عليها وهزمتنا الكمية والطعم العسلي و طلبنا منه ان يشتري كمية لزوجتي عاشقة التمر وكانت المفاجاة بان وصلتنا الكمية المشتراة من التمر و ما يماثل كميتها تماما هدية من اصحاب الدار و المحل ولم نستطيع ان نتناول شيئا منه نسبة لاكتفائنا تماما حتي الوصول الي وادي حلفا..!
كان لابد من ابراز هذه المواقف التي اعلم بوجود ما يماثلها نوعا وكما في كثير من دروب بلادي المتعدده والمتنوعة لانها تمثل منارات اخلاق يجب ابرازها للأجيال للحفاظ علي جمرة هذه الاصالة متقدة.. واما الزبد فسيذهب جفاء ويبقي ما ينفع الناس.
اما انا فلقد قاربت تجاوز حدود هذا الجغرافية شمالا و ازال ادندن مع الحلنقي :

فايت مروح
يلاك بعيد نرحل على دنيا حنيه
نعيش لوحدينا والسيرة منسيه
واوسدك قلبى وارعاك بعينيا
واسقيك مياه توتيل عشان تعود ليا
فايت مروح وين سايبنى رايح وين
لسه الوكت بدرى
خليك شوية عشان جنبك يطول عمرى

زر الذهاب إلى الأعلى