سطحية خطاب المركز والهامش

سطحية خطاب المركز والهامش
بقلم :د الصاوي يوسف
خطاب الهامش والمركز هو خطاب سطحي وأحادي وضيق، مثله مثل خطاب ثنائية البروليتاريا والبرجوازية وخطابات نحن وهم التي تسود كل المجتمعات البدائية التي لم تبلغ بعد درجة النضج الانساني الذي يجعلها تتجاوز الثنائيات الضيقة، سواء كانت قبلية او دينية او جغرافية الخ.
هو خطاب سطحي ايضا لأنه أصلا ينطلق من منطلق صراعي. ضدين اثنين لا يجتمعان. وهو منطلق خاطئ تماما. فكل نظريات الأضداد تضيق واسعا. والبشرية قد تطورت اجتماعيا وعقليا بحيث تجاوزت مثل هذه النظرة الطفولية (طفولة العقل) التي ترى في الدنيا فقط الابيض والاسود. الأنا والآخر العدو بالضرورة. السالب والموجب. لقد بلغت البشرية شأواً بعيدا في ذلك حتى انها جاوزت الحدود، فحولت الجنسين البيولوجيين الذكر والأنثى، الى طيف واسع وقوس قزح من ألوان الأجناس!! فكيف يراد لنا عند الحديث عن السلطة والثروة أن نتحدث عن ضدين فقط: هامش مظلوم ومقهور ومحروم ومركز ظالم ومسيطر؟ طبقة تملك كل شئ بلا حق (برجوازية) وطبقة لا تملك اي شئ رغم أنها هي التي تنتج كل شئ (بروليتاريا)؟؟
تطورت علوم الاجتماع والانثروبولوجي والفلسفة قبل علوم الاقتصاد والسياسة، لتدرك تعقيد وتشابك المجتمعات البشرية والعلاقات داخلها، وتعقد الظواهر والتجليات في هذه المجتمعات. فصارت تدرك أن القصة ليست ببساطة، وفي كل مكان وكل زمان، هي قصة ثنائية بسيطة كالبروليتاريا والبرجوازية او الهامش والمركز. وأن الحل للوصول لعالم مثالي وعادل هو أن نعكس الآية فنجعل البروليتاريا تسيطر على السلطة والثروة وتخسف بالبرجوازية الارض، أو أن تسيطر (مليشيات) الهامش على المركز وسلطته، وتطرد سكانه وتحتل بيوتهم وتصادر املاكهم، فتسود العدالة والسلام ويعيش الجميع في تبات ونبات.
هذه تصورات بالغة السذاجة والسطحية.
اذا كان الهامش المقصود ليس عرقيا كما يزعمون، رغم ان حركات الهامش التي غذاها الدينكا والنوبة والزغاوة الخ تشهد بعكس ذلك، فما هو المقصود بالتهميش اذن؟ هل المقصود ان الجامعة الوحيدة في البلاد كان يجب أن تنشأ في زالنجي مثلا أو تلودي، حتى لا تستأثر بها الخرطوم؟؟ وهل كانت فعلا جامعة لأبناء المركز وممنوع فيها قبول النوبة والفور والدينكا؟؟ هل كان المطلوب إنشاء المستشفى التعليمي المرجعي في توريت او سودري او المالحة حتى لا تستأثر به الخرطوم وحدها؟؟ هل كان المطلوب توزيع المناصب حسب الجهة القبيلة (رغم قولهم ان التهميش ليس قبليا) حتى يجد كل اقليم وكل قبيلة نصيبا في السلطة؟؟ هل كان المطلوب، كما زعم بعضهم بالفعل، إنشاء سد مروي في دار فور أو جنوب كردفان تحقيقا للعدالة؟؟
ما هو التهميش إذن؟؟
السلطة الوحيدة القابلة للتقسيم هي السلطة التشريعية، وهذه تم تقسيمها في كل العهود وفق دوائر جغرافية متساوية السكان، وتم تمثيل الجميع. ورغم استهبال النخب المتعلمة واصطناع دوائر خاصة للخريجين، الا ان التمثيل الجغرافي المتساوي ظل قائما في كل البرلمانات، حتى أن أشهر نوابها كانوا شبه أميين، وسبحان الله هي نفسها يتخذها دعاة التمرد والتهميش ذريعة للقول ان العهود الديمقراطية لم تكن ديمقراطية لأنها جاءت بالجهلة الأميين أتباع الطائفية وجاءت بالأغلبية الميكانيكية. بل واعتبروها دليلا على فشل ثورتي أكتوبر وابريل لأنها لم تأت بالقوى الحديثة، قوى التغيير، للبرلمان!!
قمة التناقض!!
المركز طيف عريض من الناس، من الأعراق والأجناس والقبائل الأديان والمهن والطبقات.. الذين اختاروا لاسباب مختلفة ان يعيشوا في المركز. فالنوباوي الذي يعيش في الخرطوم، مثلا، يتمتع بمستوى حياة أعلى كثيرا من حيث خدمات الماء والكهرباء والصحة والتعليم، مما يتمتع به الجعلي في ديم القراي. والفوراوي الراسمالي او الوزير في الخرطوم، يتمتع بامتيازات لا يحلم بها الرزيقي في سبدو او الشايقي في نوري. ولم نسمع عن امتياز في السلطة او الثروة اشترطوا فيه ان يكون المرشح لنيله من ابناء المركز. فالمحسوبيات والفساد الذي قد يتم، يتم كله في اطار المحاباة السياسية او العائلية أو عبر الصداقات والزمالات، وهي كلها أمور ليست مقصورة على سكان محددين بصفاتهم هم سكان المركز. ففي احدى الحكومات جاءوا بوزير دفاع هو مهندس شاب من الضعين، رغم وجود عشرات الجنرالات في المركز. وفي كل الحكومات كانوا يأتون بوزراء من الجنوب ومن دار فور، تمثيلا لهذه المناطق وليس لأنهم أكفأ الموجودين في البلاد او حتى في الحزب.
القصة ببساطة أن هناك دولة متخلفة وفقيرة من العالم ما وراء الثالث. وفيها طشاش قليل، والطشاش في بلد العمي شوف، فطفق القوم يتنازعون ويتصارعون ويتحاربون على هذا القليل الذي لا يكفي الجميع ابدا، بدلا من التعاون والتكاتف على انتاج المزيد حتى يكفي اكثر فأكثر أن لم يكف الكل.
الان، مثلا، وفي افضل الاحوال تنتج البلاد ٤ الف ميقاوات من الكهرباء، فلو أنها وزعت بالتساوي على جميع قرى ومدن السودان فهي ستكفي ل ٥ مليون منزل فقط تقريبا، مع إلغاء كل المؤسسات الصناعية الصحية والتعليمية والحكومية. وسيكون الجميع متساويا في الحرمان والظلم. فهل هذه هي المعادلة العادلة؟؟
المطلوب هو عدالة نسبية في توزيع الخدمات والبنية التحتية ومشروعات التنمية، بحيث لا يُترك جزء من البلاد خارج الحسبة. وليس المساواة العددية، فاذا أخذ فلان خمسة ياخذ علان خمسة ايضا. كمثال، عند إنشاء جامعتين اضافيتين بعد جامعة الخرطوم، اختير لها جوبا في الجنوب ومدني في الوسط.. ربما لاعتبار قلة السكان في الشمال حينها. ثم لما جاءت ثورة التعليم العالي، أنشئت جامعة في كل ولاية. حتى أن الكثيرين يحتجون على ذلك باعتباره زيادة في الكم دون قدرة على ضمان الجودة والكيف. ولكن المهم أن متخذ القرار السياسي راعى مسألة العدالة، وخطاب التهميش المزعوم، وحاول تحقيق درجة من المساواة في احد أهم موضوعات التهميش، اي خدمات التعليم العالي خاصة. عند إنشاء الطرق كانت الاولوية لربط الميناء بالعاصمة، ثم لما تقرر توسيع شبكة الطرق، كانت الاولوية للغرب والشمال. وفي مجال السلطة بالغت الحكومات في السنوات الاربعين الاخيرة في تمثيل كل الجهات (المحاصصة) حتى احتج الناس على مستوى بعض الوزراء، وهم لا يعلمون أن أولوية متخذ القرار كانت هي إرضاء “الهامش” المزعوم أكثر من اختيار الكفؤ وفقا لمعايير الأداء الفعلي، لأن التهميش كان مصدرا للزعازع والحروب وعدم الاستقرار، وتهديدا لوحدة البلاد وبقائها نفسه، بينما الأداء السئ مقدور عليه..
إذن كل المطلوب هو السير قدما في انتاج القيمة/ الثروة، حتى تعم وتنداح وتقطر trickle حسب تعبير نظرية الاقتصاد الراسمالي، على بقية مناطق القطر خارج “المركز”. هذا بجانب سياسات تنموية عادلة وواعية تتيح خدمات الرعاية الصحية والتعليم الاساسي والتدريب المهني، لكل طبقات المجتمع، فهناك أحزمة من “المهمشين” حتى في العاصمة والمدن الأخرى المحظوظة في “المركز”. وسياسات لتوزيع مال التنمية بعدالةٍ تراعي المصالح القومية والمصلحة الاقليمية في نفس الوقت. فقد يكون مبررا ان ننفق ٣ مليار دولار لانشاء سد على النيل لتوليد الكهرباء والتوسع في الزراعة، ولكن لن يكون مقبولا أن ننفق مليار دولار على مدارس الخرطوم مثلا، وأقل من ٥٠ مليون على مدارس جنوب دار فور او النيل الأزرق مثلا.
وفي نظام ديمقراطي، يمثل البرلمان كل السكان تمثيلا جغرافيا عادلا، ويمثل الحزب الحاكم الاغلبية السياسية في البلاد، وداخل ذلك البرلمان يتم مناقشة واجازة الميزانية وكيفية توزيعها وماهي المشروعات القومية ذات الاولوية، وماهي الولايات التي تستحق تمييزا ايجابيا او مشروعات اسعافية عاجلة مقدمة على غيرها. يتم كل ذلك في اطار لجان تدرس الأمر بناء على المعلومات والمعطيات الواقعية، وبناء على المتاح من مال، وبناء على الخطط القومية للتنمية والخدمات، وما تم الاتفاق والتراضي عليه في برنامج الحكومة الفائزة ونوابها. وهذا يختلف كثيرا من الهتاف الأيديولوجي الأجوف، وحركات التمرد المسلح، التي يقودها موتورون أو مغبونون، كل ما يعرفونه هو شعارات تم تلقينها لهم، من مثل ان الناس في “المركز” يتمتعون بهواء المكيف الساااقط وبالعربات والنساء الجميلات بينما أنتم تعانون من الحر والفقر والمشقة والتعاسة.. فهذه شعارات باطلة يراد بها باطل اكبر، هو تدمير الجميع ليتساووا في الفقر والتخلف والتعاسة، وليكسب قيادات هذه الحركات مكاسب ذاتية لأنفسهم دون تغيير واقع الحال في مناطق التهميش.. ودوننا حركات الجنوب منذ ١٩٥٥ وحركات دار فور منذ ٢٠٠٣ والأوضح والأكبر: حرب الجنجويد على سكان الخرطوم وغيرها.. بحجة محاربة التهميش ودولة ٥٦ التي رسخته!
وعبر الزمن، يتحرك الناس من “الهامش” الى “المركز” فابن الراعي الفقير في جنوب دار فور يتعلم ويصبح مهنيا ومديرا ووزيرا وقياديا، وابن المزارع الفقير من اقصى الجنوب او الشرق، يكسب المال بمواهبه وجهده ويصبح من كبار الراسماليين في المركز، وأبناء الارياف البعيدة يستوطنون الخرطوم والعواصم ويبنون القصور والعمارات، وغير ذلك من مظاهر الحراك الاجتماعي والاقتصادي..
واذا فككنا نخب المركز الخرطومي اليوم، فسوف نجد أغلبيته من الذين جاءوا من الهامش (الجغرافي والاقتصادي وحتى القبلي) ولن نجد اغلبية واضحة لقبيلة او اقليم مسيطر ومحتكر ومنفرد بالامتيازات..