ثقافة وفنونرأي

ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد

بقلم: د. ميادة الطيب البدوي

(الفصل الثالث: رجل من زمن الخوف)

لم يكن يوسف هو الوحيد الذي التقيته في القاهرة.

بعده بعامين، وفي واحدة من أمسيات الشعر التي بدأت أشارك فيها بتردد، التقيتُ بـ “هيثم”.

رجل في أواخر الثلاثينات، سوداني الملامح واللكنات، لكنه بدا كمن عاش عمرًا كاملاً خارج الخارطة.

كان طويلاً، أصلعً، يلبس نظارة طبية، ويتحدث ببطء كما لو أنه ينتقي كلماته من تحت الركام.

تحدثنا بعد الأمسية، دعاني لاحتساء قهوة في مقهى ثقافي صغير.

لم يكن يشبه الرجال الذين عرفتهم من قبل… لم يكن يتحدث عن الحب، ولا عن الزواج، ولا عن “أنتِ مفروض ما تكوني هنا”.

كان يسأل عن الكتاب الذي أحمله، وعن القصيدة التي قرأتها، وعن جدتي التي وردت في إحدى نصوصي.

شعرت معه بشيء يشبه الأمان… أو ربما، خداع الأمان.

كنت وقتها متعبة من الوحدة، منهكة من الصمت، جائعة لعينٍ ترى داخلي لا حولي.

وهيثم كان يعرف كيف يصنع ذلك الانطباع.

تكررت اللقاءات.

بدأ يتحدث عن ماضيه، عن السجن، عن السياسة، عن الرصاص الذي عبر قربه ولم يصبه.

قال لي مرة:

“أنا نجوت من الموت… لكني ما نجوت من الوطن.”

حينها، شعرت أننا متشابهان.

كنا نضحك على النكات السودانية المهربة في الغربة، ونتحدث عن الأغنيات القديمة التي كانت تُبث من إذاعة أم درمان.

كل شيء فيه كان محسوباً… حتى صمته.

مرت أشهر قبل أن أكتشف الوجه الآخر.

وجه لا يرفع صوته، لكنه يعرف كيف يزرع الخوف في التفاصيل.

كلماته صارت تدريجياً مليئة بالتوجيه

– “ما تلبسي كده قدام الناس.”

– “قصايدك دي فيها وقاحة ساي.”

– “النسوان الزيك محتاجين رجل يحميهم من نفسهم.”

صُدمت.

كنت أظنه مختلفاً… فإذا به ابن ذات المدرسة التي هربت منها.

مدرسة الرجل الذي يحبك فقط إذا صرت قابلة للترويض،

الذي لا يرى فيك سوى مشروعاً لزوجة صالحة بصوت منخفض.

واجهته ذات يوم، وقلت له:

“أنا ما هربت من الخرطوم عشان ألبس خوف جديد في القاهرة.”

فقال، ببرودٍ قاتل:

“كلنا بنخاف يا ميادة… الفرق إنك بتسميه حرية.”

افترقنا.

خرج من حياتي كما دخل: بلا أثر يُذكر، سوى ذلك الدرس الذي كاد أن يكلّفني سنوات جديدة من التراجع.

هيثم لم يكن رجلًا سيئاً بالضرورة.

كان مجرد ظلٍ من وطنٍ مريض… يحمل مرضه معه حيثما رحل.

تعلمت يومها أن النجاة لا تعني فقط أن تخرج من المكان،

بل أن تخلع عنك كل الأصوات التي ظننتها حبًا وكانت قيدًا.

ومنذ ذلك اليوم، قررتُ:

لا أريد رجلاً يحميني… أريد رجلاً لا أخافه.

تابعوا سلسلة “ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد”

زر الذهاب إلى الأعلى