خدمية واجتماعيةرأي

د. خالد سعيد سعدون حمد يكتب .. صمت المواهب

في بيوتنا، ومدارسنا، وعلى أرصفة الشوارع، تنام عبقريات صغيرة خلف وجوه بريئة، تمضي بخفة الطفولة، تحمل دفاترها وأحلامها الطازجة، وتنظر إلى العالم بعين تلتقط من كل مشهد فرصة، ومن كل سؤال نافذةً للإبداع.
هذه الأرواح الصغيرة ترى بصفاء لم تلوثه التجارب، وتفكر بعقل لم تُثقل كاهله الحسابات. فطرتها ما تزال نقيّة، وذهنها كمرآة لم تُمسّها يد، تتلقف كل ما حولها باندهاش وفضول. ثم تأتي البيئة، فتبدأ في التشكيل، وتصبغ الفطرة بطابع المجتمع، كما قال النبي ﷺ: “فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه.” وهكذا يتلون الفكر كما يتلون المعتقد، ما لم يجد الطفل من يصون بدايته ويرعى موهبته.
هذه الأرواح النقية، التي لم تُدنّسها رواسب الحياة، ولم تُكبّلها أنظمة التلقين. تحتضن بين جوانحها مفاتيح الإبداع، كما تحتضن الأرض البكر وعد الزهر. لكنها لا تعلم أنها عبقرية، لأننا لم نُخبرها يومًا بذلك، والأسوأ أننا أخرسنا صوتها قبل أن يُولد، وأغلقنا نوافذها قبل أن تطل على ذاتها.
الطفل عبقري بطبعه، لم يذق بعد مرارة الحياة، ولا حمل أثقالها. يعيش ببساطة الطير، يطير مطمئنًا، ويغدو خماصًا ويروح بطانًا، لا يشغله الغد، ولا تحاصره الهواجس. مشاعره نقيّة؛ ضحكه من القلب، وبكاؤه من العمق، وصحبته لا تعرف المصلحة. كل ما يصدر عنه صادق، لأن فطرته ناطقة بالحقيقة.
ومن هذا الصفاء تولد أعظم الأفكار، لأن الإبداع لا ينبثق من الزحام، وإنما من لحظات الصفاء. كما يولد الشعر في لحظة حضور، حين تتسلل المعاني من القلب قبل أن تصوغها اللغة، فينطق الإحساس وتنبض الكلمة بالحياة. والطفل، ما دام على فطرته، يحمل هذا الصفاء بين جوانحه، حتى إذا تداخلت أيدينا، تعكّرت تلك الصفاءات، وانطفأت جذوة النور.
تأمل أسئلته البريئة، كم فيها من دهشة واكتشاف. يسأل: لماذا هذا؟ ولماذا يشبه ذاك؟ لأن عقله حاضر، وفضوله حي، يلتقط ما نغفل عنه، ويرى ما لا نراه. أما نحن، فتجاوزنا السؤال، إما خجلًا، أو لأننا لم نعد نرى ما يستحق التساؤل اصلا. خذ طفلك إلى متجر او الي السوق، وستجده يمطر المكان بالتساؤلات، بينما أنت منشغل بالدفع والخروج، وقد خمد فيك شغف الاكتشاف منذ زمن.
وربما كان سؤال واحد، كسؤال نيوتن أمام التفاحة، كفيلًا بأن يغيّر وجه العالم. السؤال هو المفتاح، والطفل يحمل هذا المفتاح بالفطرة، إذا وجد من يُنصت له، من يربّيه بعلم، ويحتضنه ببصيرة. أما حين تُترك الفطرة وحدها، تُشكَّل كما نشاء، ونُلبسها ما لا يشبهها، ونخمد نداءها قبل أن يعلو، تذبل وتنسحب.
فلو أننا حفظنا نقاءها، ومهّدنا الطريق أمامها، وقلنا لها بثقة: “انطلقي”، لأزهرت عقولًا، وأينعت أفكارًا، وأثمرت من كل زوج بهيج.
اذن المشكلة ليست في غياب الموهبة، وإنما في كتمان البدايات. نزرع الخوف في مواضع الفضول، ونُلقّن بدل أن نُفهم، ونتّهم من يسأل، ونُقصي من يرسم حلمه خارج الهامش. نمدح من يلتزم بالنص، ونُنكر على من يوسّع الفكرة.
مدارسنا، التي كان يُرجى أن تكون معامل للابتكار، تحوّلت إلى مصانع للنسخ، ومقابر تُدفن فيها المواهب. نقيس الإبداع بالدرجات، ونزن الفهم بميزان الانضباط، ونعلّم أبناءنا كيف يجتازون الاختبارات، لا كيف يواجهون الحياة. نخاف من الخطأ، ونزرع في أذهانهم أن المحاولة عيب، وأن التجربة تهور، ثم نتساءل: أين المبدعون؟
وحين يُذكر اسم مكتشف أو مبدع، نُدير وجوهنا نحو الغرب، لأنهم هناك يسقون البذرة قبل أن تُزهر، ونحن لا نزال نختلف: هل تستحق أن تُروى؟ هناك تُحتضن المواهب منذ نعومة الفكر، وهنا تُترك حتى تذبل وتُنسى.
الغرب لا يصنع العبقرية من فراغ، لكنه يُنصت حين تمر من جانبه، ويمنحها فرصة لتكون. ونحن نُغلق الصندوق على كل موهبة ناشئة، ونرثي ما أهملناه بأيدينا.
قالها أحمد زويل: “في الغرب، يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.”
وكم من عبقري بيننا، طُمست موهبته ، وماتت محاولاته الأولى في مهدها، فلم يُثمر إلا حين عبر الحدود إلى أرضٍ أنصتت له، واحتضنته، ومنحته ما لم يجده في وطنه.
التربية ليست مجموعة أوامر ونواهٍ، بل بيئة تُنصت، تؤمن، وتُمهّد الطريق. تربية تُعنى بغرس الأخلاق وبناء الانضباط، وتفتح في الوقت ذاته نوافذ الاكتشاف، وتُشجّع المواهب على النمو. وذلك لا يكون إلا بأيدٍ مخلصة، ومعلمين يملكون البصيرة، يلتقطون بوادر التميز مبكرًا، يوجّهون دون كسر، ويُشجّعون دون تهميش.
فالطفولة ليست مرحلة عابرة، بل أصلٌ تنمو منه الشخصية وتُبنى عليه النفس. لذلك يسأل الطبيب النفسي عن الطفولة عند التشخيص، لأن ما يُغرس أولًا، يُثمر لاحقًا. الطفل كالغصن الطري، يسهل تقويمه في بدايته، فإذا ترك واستقام معوجًا، صار تقويمه صعبًا.
لا عبقرية تنمو في بيئة تخيف، ولا شخصية تتماسك في تعليم لا يُنصت. نحن بحاجة إلى نهضة تربوية، تُفرّق بين التوجيه والتلقين، بين الحزم والصرامة، بين ضبط النفس وكبت الشخصية، بين رعاية السؤال ومطاردة السائل.
لقد آن الأوان أن نستيقظ.
دعوا المواهب تنطق، تخطئ، تُحاول، وتتعلم.
افتحوا أمامهم نوافذ الثقة،
وامنحوهم بيئة تحتويهم، لا تكسرهم.
فقد يكون في ركن من بيتك عبقري صغير،
ينتظر فقط من يمد له اليد ويقول:
“افعلها… نحن نثق بك.”

زر الذهاب إلى الأعلى