الغربة لا تبدأ حين نغادر… بل حين لا نستطيع العودة

مرايا مكسورة ..
بقلم/ د.ميادة الطيب البدوي – باريس
هل تعرف متى تبدأ الغربة؟
ليست تلك اللحظة التي تضع فيها حقيبتك على الرصيف وتلوّح للمطار.
الغربة الحقيقية تبدأ حين تفقد الحق في العودة… حين تصبح مدينتك، التي كانت رحمك الأول، تُدار كأنك دخيل عليها.
أكتب من باريس، لا لأنني اخترت الرحيل، بل لأن الخرطوم – تلك التي كانت تسند ظهري – انكسرت من خلفي، وتركتني واقفة في منتصف الطريق بلا ظل.
حين سقطت أول قذيفة على منزل جدتي في العباسية، لم أبكِ.
لكنني بكيت كثيراً حين حاولت استعادة تفاصيل وجهها في ذاكرتي… وفشلت.
أدركت حينها أن المنفى لا يمحو الأمكنة، بل يبهت الوجوه.
أنا ميادة الطيب البدوي،
امرأة في أواخر الثلاثينات، صحفية بدرجة لاجئة، وعاشقة بدرجة شاهدة على وطن ينهار، ورجال يتكئون على الكلمات ويهربون من الالتزام.
في باريس، كل شيء جميل… لكنه لا يعوّض.
الخبز هشٌ لكنه بلا رائحة طابون.
الشوارع نظيفة لكنها بلا نداء الباعة.
الناس لطفاء، لكن لا أحد يقول لك “عافية ليك” حين تعطس، أو “جيت من وين الليلة؟” حين تتأخر.
أكتب هذا وأنا أراقب نشرات الأخبار التي لا تنتهي، والخرطوم تظهر فيها إما محترقة، أو مغلقة، أو صامتة بصوت الموت.
وأسأل نفسي: كم مرة يجب أن نحترق، لنعرف أن من يبيعك السلام مقابل الخنوع، لا يستحق أن تكتب له قصيدة ولا حتى شتيمة؟
هذه السلسلة ليست سياسة فقط.
هي قصة امرأة عاشت في هوامش الحب، وقلب السياسة، وظلال الفقد.
ما بين باريس والخرطوم… قلبي لا يعرف الحياد.

