رأي

في ذكري رحيله الرابعه إبن الباديه .. طلاوة أهل الصلاح


محمد أمين ابوالعواتك يكتب:

كنت قد سألته في جلسه موثقة في يوم من ايام العمر الجميلة ..و المؤكد ان كل لحظات التواجد مع استاذنا “إبن البادية” ممتعه وجميله ..
فليس المديح النبوي الشريف او الفنون هما فقط تكئة المحبه معه..
بل كل ذلك اللطف الانساني واسلوب الحديث والمفردة المعطرة بطلاوة اهل الصلاح..
كنت انتهز كل سانحه معه للمعرفة وسألته مرة عن روتينه القديم في البيت في ابوقرون في تلك الايام المبكرة …
قال لي بتلك الحروف ندية المخارج:

“كنت بركب وبمشي سوق “ام ضوبان” اجيب الحاجات البتقضينا لايام لان السوق بيفتح الاتنين والخميس ..”
وتحدثت معه عن تفضيلاته التي عددها في لقاء مذاع ومجتمع المنطقة بشخوصه وحكاويهم ..
اهل الطرفة ( والله حكاية)..
وقصص الحياة..
وكل تلك القفشات والضحكات الرنانه المصاحبه.. يا الله.. كم افتقدها..
وافتقد تلك الروح التي لا تُماثل و لايمكن الالمام بوصف تنوع انفاسها في حياة الناس..

اقدار المحبة الجميلة واخاء الارواح والاصطفاء جعلني من سكان ذات الجغرافيا منذ زمان ..
بناء علي اشارة مولانا الشيخ النيل ابوقرون : يا محمد الامين اخير تجو تسكنوا قريب معانا ..البلد دي هناك مقبلة علي الكتير ) … كان هذا قبل سنوات..
ظروف الحرب الاخيرة حتمت ان يطول بقائي هذه المرة في قرية الشيخ الصالح ابوقرون لفترة طويلة وان اعيش ذات تجربه الذهاب الي “سوق ام ضوبان” لشراء الاغراض واظن ان التغيير الوحيد بجانب التوسع الطبيعي ان السوق مع ظروف الحرب صار يوميا مع الازدحام ..
ظلت كلمات استانا إبن البادية و كل ذلك الوصف الدقيق له للناس والحياة هنا هو رفيق الدواخل في كل مشوار لي للسوق بل ابادله الخواطر ..
وقد يلاحظ احد الابناء بجواري ونحن في طريقنا بعض الهمهمات او التبسم الصامت ..
عجيب امر الدنيا والانسان ومحطات الحياة
واقدار المسير ..
ودائما ما اسرح واقول لمن يسأل :
باني ابن السودان الكبير
شهد بحر ابيض في الدويم
بلد العلم ومدينة الاوائل
مسقط راسي …
وكان صباي الاول في كردفان
في عروس رماله ..مدينة الابيض
وتنقلت مع الوالد عليه الرحمة والمغفرة والرضوان
في جميع اصقاعه..
اصولي وتفرعاتها منتشرة من دار جعل شمالا ثم كردفان والنيل الابيض وام درمان والخرطوم..
جدي لابي استشهد في المهدية ومدفون في تفتارا
جوار ديم الجعليين بكردفان ..
ونلتقي مع الشيخ ادريس ود الارباب عبر احدي جداتنا من ناحية الاب ..
و الشيخ حامد اب عصا جدي لامي
وابي شيخ مجاز في الطريقة الاحمدية البدوية بمدينة الدويم..
وتجدني اليوم مستقرا ليس في اي من هذه الاماكن المحببه التي اعتدتها ..!!
بل في شرق النيل في ابوقرون..
ويا لها من رحلة ..

في الطريق الي “ام ضوبان” من ابوقرون تمر بمدافن الحصايا الشهيرة التي تقع في المنتصف بين ابوقرون وام ضوبان والتي يرقد فيها الشيخ الصالح ” ود ابزيد” جد الشيخ ابوقرون …
و “ريا” أم الشيخ العبيد رضي الله عنه التي اشتهر بها ( العبيد ود ريا) هي “ريا بت ابزيد”
والاسم “ابزيد” اشتهر عند القوم في امانة اخر الزمان : (الارنب لي ديدابها والبركة بترجع لي زيدابا)..
كان اول ما سمعت منه هذه المقولة في فترة مبكرة من عمري وفي جغرافيا اخري الي الغرب من شاطئ النيل الابيض وانا صبي في “اولي متوسط” من احد مجاذيب الشيخ المكاشفي بمدينة الدويم…
وهو مشهور لاهل المدينه باسم “سرد” وقد حكاها رواية عن الشيخ المكاشفي..
يا لها من مقادير و رحلة مسير..!
وهل يملك الانسان من امره شيئا !!

تزدحم الخواطر وانت مرور بالمكان وتبلغ سوق “ام ضوبان” الذي كنت اسمع به فقط في حكايات العارف الشهير ود بدر رضي الله عنه او حديث استاذي مولانا الشيخ النيل ابوقرون او ذلك التوثيق مع شيخنا صالح بذلك الحديث المحبب:
“تشتري ليك شوية بصيلات
خضار و لحمة
وشوية حاجات
والمرور علي العطارة
فهي محطة واجبة “
و تلك المقدرة المحببه علي السرد و ربط قصص الحياة مع موروث الحقيقة المهول في هذا البيت العرفاني الكبير باثره العميق في حياة الناس منذ قرون..تقاليد متوارثة في خدمة المجتمع والدين منذ قرنين من الزمان واثر عميق ممتد في كل جغرافيا الوطن وخارجها بروابط الحب النبوي والامتدادات بما لايمكن الالمام بكل اطرافها وجرب ان تشاهدها يوما نفير او مناسبة كالمواسم الراتبة حجم الوفود التي تحضر في كل موسم من جغرافيا مختلفة..والاهم الارث المتين و رايات المحبة النبوية ومرجعياتها المتفردة انحيازا تاما كاملا بلا وجل او تبديل والزود عنها حقيقة وشريعة ومجاهدات معلومة سمع بها القاصي والداني..
ليست لحظوظ نفس بل ثبات ويقين علي تمام الايمان بالمبعوث رحمة للعالمين وعصمته و مرجعيته علي من بعث فيهم للهداية..وهي مواقف و مجاهدات يقبل العالم اليوم علي منهجيتها في الانتاج الفكري للشيخ النيل ابوقرون وتلك اقدار وادوار كبري لها ما بعدها..

ومن يتيح له استاذنا “بن البادية” بابا للوصل يلج معه عالما يزدحم بكل ماهو جميل ويتعلم الكثير من ما لايمكن تعلمه من كتاب..وهل تنسي حكايات المحبه والصالحين منه؟
سيرة المؤسس صاحب الدار جده الشيخ ابوقرون وبداية تأسيس المكان…
و عهده القديم مع الجدار والارث المهول من العرفان الموصول بالدوحه النبويه المباركة بسلسلة نورانية من تلك الخيرية الاصل واقدار وادوار وبشريات …
فلقد كان جل حديث الشيخ المؤسس عن اخر الزمان في هذه البلاد..
والوالد ابونا الخليفة الجيلي..
ذلك الشيخ الامة
وكلمات الشيخ ابوقرون رضي الله عنه:
( ..إن فيها ابنا صالح)
فمن يوقف سلسلة النور القديم الاتم ؟!
و كل ذلك البوح البديع في “الدر الثمين”:
ناح القمري مع الحمام
ذكرني طه الامام
فريد عصرو
المامتلو شي
و الجلوس مع استاذنا “بن البادية” يكون نبع دفاق لروايات عديدة عن اهل الصلاح والمحبين وهو حاله الدائم غير منشغل بدنيا ..
كانت لنا جلسه دائمة في خلوته في المسيد في المواسم ..كانه ينتظر وصولي و كنت اجد العمده عباس بلة في كل مره في انتظاري في ساحه المسيد ونترافق دخولا اليه و الجلسه معه في كل موسم صارت كالمنتدي يتحدث هو فيه للاجيال الكبيرة من اهل الطريق عن المحبة ومنهج العصمة المحمدية بلغة ميسرة و مبسطة والخلوة مزدحمة علي اخرها وكان يترك لي دائما مجالا للمداخلة معه وهي اقرب فعاليات المواسم لقلبي وذلك لما اتعرف عليه واتعلمه واسمعه من اثر و روايات وتاريخ …
اذكر منها واحدة عن الشيخ الكباشي وهي حكاية اثيرة عجيبة عن احدي رحلاته الي الحج وكان في ذلك الزمان بالقوافل برا و التي كان قد تاه دليلها في الصحراء بلا اثر ولا ماء ..
وقد التقيت مرة بالشيخ عبد الوهاب الحبر الكباشي وتحدثنا عن اهل العرفان و ال ابوقرون وهو يعلم علاقتنا بهذا البيت الكبير كما ان هناك محبة متبادلة كبيرة لمستها منه، وذكرت له إن حكاية قافلة الحج لجده الشيخ الكباشي تظل رواية اثيرة عندي و قد اخبرني بها استاذنا “بن البادية” فقال لي : احكيها وكان معه عدد كبير من اتباع الطريق فحكيتها له كاملة فقال لي :
نعم صحيحة و تحدث مطولا عن ال ابوقرون.

رحيل شيخا صالح هو علامه فارقة بين زمان و زمان
وليس ادل علي ما اقول هو ما نشهد من احداث جلل لم يعاصرها الناس لاجيال..
فلقد مضي زمان كانت تحلق بنا هذه الارواح السامية في سماوات العشق الاصيل والتبتل ولا ادري هل انتبه الناس الي هجرة كل تلك الارواح الجميلة التي غادرتنا مؤخرا
وهل هناك صدفة في الاكوان…
لا والله ..
فكل يجري بقدر..
ونؤمن بالقضاء والقدر…
لكن
هل يرحل مثل صلاح ..
بل هل يرحل الصلاح؟
وهل غاب عنا يوما ..؟
نعم تفتقده جميع الساحات..
فهو بهجتها
و صوت مناجاتها
تحليقا في عوالم السمو الروحي و الوجداني
لذا كان الكل ينتظر وقته في حلقة الذكر عندما يمسك بذلك الطار ..
وتلك “النحنحه” قبل ان تنهمر درر المعاني..
بصدق صوت المناجاة والعشق والتبتل
في محاريب الحب التي شادها في كل قلوب اهل الصبابة والحب وكل تلك الدموع…
و هو من ذات افتقاد اهل المسارح والمهرجانات والبرامج التلفزيونية ..
وسؤال من ياتي متاخرا قليلا.. بكل ذلك الشوق :
يا خوانا ..بن البادية غني؟

“واعمل ايه فيك يا المقادير
مره بالافراح نطير ومره بالاشواق نسير”
فكيف يغيب الذي صار في الدواخل حضور
وهل يُنسي !
فياتي الرد عبر صوته بكلمات اغنيته مماثلة المعني..
فالنسيان وكل اشكال الغياب
تتلاشي وتنتفي
وتركع عاجزه امام حضوره وذكراه المقيمة
ويكون لسان الحال؛
“انت عائش في وجودي لو معاي ولا غائب”
🙌🏻
محمد أمين ابوالعواتك

منصة بوارق الحب 2023
💠قيم
💠إنسانية
💠محبة

زر الذهاب إلى الأعلى