الإنكشاريون الجددقراءة فى تاريخ وثقافة الجنجويد ـ 1ـ

عطا المنان بخيت
كانوا يمثلون نخبة الجيش العثمانى، وسر قوته ومصدر هيبته. كان إسمهم مخيفا، وزحفهم مهيبا وضربهم رهيبا. إنهم فرقة الإنكشارية شامة جيوش السلطنة العثمانية وسيفها البتار وسهمها الضارب فى صدور الأعداء. لا يعرف على وجه الدقة متى تكونت فرقة الإنكشارية، لكنهم ظلوا وعلى مدى خمسة قرون تقريبا، من العام 1363 وحتى العام 1826 يشكلون العمود الفقرى للجيش العثمانى.
يبدأ التسليك فى سلك الإنكشارية فى فترة مبكرة، حيث يجمع أطفال صغار السن من أبناء السلطنة أو من الأيتام أو من أبناء ديار الفتح من شتى الأمصار، وتتم تربيتهم وهم يافعين ليكونوا مقاتلين أشاوس، يتعلمون كل فنون الحرب والقتال، ويلقنونهم معانى التضحية والإستبسال. يغرسون فيهم حب الجندية ومهارات القتال وخوض الحرب فى الموت السجال، ويدربونهم على كل ما تحتاجه الجندية من قوة وفتوة وقسوة وشدة وبأس. يعملونهم بصرامة تنفيذ الأوامر والولاء المطلق للقائد والإستعداد للموت فى سبيل السلطنة والسلطان. لا يسمح لأفراد هذه الفرقة الضاربة ممارسة أى عمل غير الحرب، ولا يختلطون بالعامة إلا قليلا، ولهم نظام صارم فى الترقى والتنقل والتقاعد. وهذه الطريقة فى المران والتدريب، تشبه ــ فى أيامنا هذه ـ ما تقوم به الأندية الرياضية ومدارس الرياضة المتخصصة من إستقطاب للأشبال من سن مبكرة وتعليمهم بشكل حازم فنون ومهارات كرة القدم ليكونوا لاعبين مهره.
خاض الإنكشاريون كل معارك الدولة العثمانية الكبرى وحققوا إنتصارات باهره حتى غدا إسمهم مخيفآ، ويكفى رؤيتهم فى الصفوف الأمامية للجيش العثمانى حتى تنهار الروح المعنوية للعدو ويولى الإدبار. إستخدمتهم الدولة العثمانية بنجاح فى قمع كل حركات التمرد على الدولة فى شتى الأمصار، وحققت بهم فتوحاتها الكبرى فى أوروبا وأسيا الوسطى وإفريقية. كان إسم ورسم الإنكشارية مرعب للعدو بالذات فى أوروبا، وقد روى المؤرخون قصة طريفة فى ذلك، وهى أن ملك هولندا قد تعرض لغارات كبيرة من بعض الممالك المجاوره له وهددت بإجتياح عاصمة مملكته فإرسل الى السلطان العثمانى سليمان القانونى يطلب المساعدة العسكرية ومده ببعض الجنود العثمانيين الأشاوس. إستجاب السلطان العثمانى لطلب النجدة بشكل غريب فهو لم يرسل أى جندى عثمانى لمساعدة الجيش الهولندى المتقهقر، ولكنه أرسل كمية من الزى الرسمى للإنكشارية، وطلب من ملك هولندا أن تلبس كتيبة المقدمه فى جيشه زى فرقة الإنكشارية ويخوض بهم المعركة، وقد كان. وكانت المفاجأة أنه عندما واجه الجيش الهولندى الجيوش الأوربية المهاجمه وهو يلبس زى الإنكشارية ظن الأوربيون أن العثمانيين قد تحالفوا مع ملك هولندا وأرسلوا له فرقة الإنكشارية المرعبه، ودب الرعب فى الجيش الغازى وولى هاربا قبل أن تبدأ المعركة، وظلت هولندا من بعد أمنة لسنوات طويلة.
لقد عظم نفوذ فرقة الإنكشارية مع مر السنين، وأصبحوا قوة عسكرية مهابه، ولكن الدولة العثمانية بدأت تضعف سياسيا وأغرى الضعف السياسى للدولة قادة الإنكشارية بالتدخل فى لعبة السياسة. فبدأوا يفرضون رأيهم فى مسار الدولة السياسى، ووصلت بهم الجرأة الى حد التدخل فى تحديد من سيخلف السلطان، وكلما ضعفت الدولة قوى نفوذ قادة الإنكشارية. ثم وصل بهم الحال الى تنحية السلطان وتنصيب السلطان الذى يريدون، ويكافئهم السلطان الذى ساندوه ويغدق عليهم الهبات والعطايا، حتى حاز قادة الإنكشارية على ثروة عظيمه. وعندما جمعوا الثروة والقوة أصبح نفوذهم لا يضاهى ولا يعقد رأى بدونهم، ومن لا يسير على هواهم يجد حتفه لا محاله، ولم يعد هناك أى كبير عندهم، وبلغ بهم التعدى على الدولة مبلغا عظيما عندما قتلوا أحد السلاطين خنقا حتى الموت.
إستمر سلطان الإنكشارية فى القوة والصعود حتى وصول السلطان محمود الثانى للسلطة فى العام 1808م ، لقد أدرك هذا السلطان أنه إذا لم يتم كبح جماح الإنكشارية فإنهم سيقضون على السلطنة العثمانية نفسها لأنهم يملكون القوة الثروة والجرأة على التغيير، ولكنه كان يدرك أن مواجهة هذه الفرقة الشرسة ليس أمرا سهلا. إتخذ السلطان قرارا صعبا وحازما، بدمج الإنكشارية فى الجيش الرسمى للدولة العثمانية، ولإمضاء قراره هذا عقد إجتماعا خاصا لمجلس الوزراء حضره مفتى الديار العثمانية وقادة الجيش الرسمى وقادة الإنكشارية، وأصدر قراره التاريخى بدمج قوة الأنكشارية فى الجيش الرسمى للدولة، وأمر بتنفيذه. من جهته أصدر مفتى الديار العثمانية فتوى رسمية بجواز دمج الإنكشارية فى الجيش الرسمى.
رفض قادة الإنكشاريين الإنصياع الى الفرمان السلطانى، ورفضوا الإندماج فى الجيش الرسمى للسلطنة، وأعلنوا العصيان والثورة والخروج عن السلطان. بدأت الثورة بمهاجمة مدينة إسطنبول عاصمة الخلافة فإشعلوا فيها النيران وروعوا المواطنين وإحتلوا المنازل ومرافق الدولة، وإجتاحوا الأسواق فخربوها ونهبوها وأفسدوا فسادا عظيما. ولكن السلطان محمود الثانى كان حاسما وقرر المواجهة مع أقوى وحدات الجيش العثمانى، وفى سبيل ذلك حشد السلطان كل وحدات الجيش الرسمى للدولة وأمر المدفعية بدك كل تحصينات ومعاقل الإنكشارية فى إسطنبول والأمصار، وقتل فى يوم واحد أكثر من سته آلاف من الإنكشارية ولاحق الفارين منهم حتى قضى عليهم عن بكرة أبيهم فى معركة كبيرة خلدها التاريخ العثمانى بإسم الواقعه الخيرية، أو مذبحة الإنكشارية والتى جرت فى شهر يونيو 1826م. وإنتهت بذلك أسطورة الإنكشارية التى رفعت إسم وعلم الدولة العثمانية فى كل القارات وأسهمت بسهم وافر فى صناعة أمجاد الدولة العثمانية، ولكنها فى خاتمة المطاف وعندما ملكت القوة السلطة والثروة، تمردت وأرادت أن ترث الدولة العثمانية كلها، ولكن هيأ الله للدولة قائدآ حازمآ وحاسم قضى عليهم وأوردهم المهالك وسقاهم من كأس الموت الزؤام.
والان، لنطوى التاريخ قرنين من الزمان الى الأمام، لنصل الى يومنا هذا من عامنا هذا، ألا ترون أن السودان يواجه اليوم ذات السيناريو من الإنكشاريين الجدد. قوة نشأت من رحم الدولة وبمالها وتخطيطها، وكانت رمحا تستخدمه السلطة ضد خصومها وطوع بنانها. ثم لما كبر وتمدد وجمع القوة والثروة الطائلة إستغل ضعف الدولة وأنشب فيها أظافره. ألم يجند الدعم السريع الآلاف من قبال الصحراء ويزج بهم فى معاركه المتطاوله؟ أليس أبناء البدو العاربة ذو الشدة والبأس فى القتال هم عماد جنده، وشامة مقاتليه، أليس هو الدعم السريع الذى كان طوعا للجيش والسلطة فى بداياته فى عهد الإنقاذ، أليس هو الدعم السريع الذى واجه حركات التمرد التى كانت تهدد نفوذ الدولة فى دارفور وقضى عليها، ألم يكن طوع بنان السلطة فى عهد الإنقاذ تحركة كيفما تشاء. ثم ماذا جرى؟ أليس هو الدعم السريع الذى إستغل ضعف الدولة بعد ثورة ديسمبر فتمدد وتطاول، ألم يصبح هو الآمر والناهى يقرب من يشاء ويبعد من يشاء، ألم يتنكر لأولياء نعمته وصانعى مجده ورافعى ذكره، ألم يجمع الثروة الطائلة من موارد البلاد ثم يسخرها كما يشاء لشراء الذمم وخراب البلد، ألم يخن القسم والعهد ويرفض دمجه فى الجيش الرسمى ويعلن الثورة والتمرد ويوقد نار الحرب فى العاصمة، ألم يهاجم منزل القائد العام غدرا، ألم يروع الأمنين وينتهك الحرمات ويستولى على بيوت وممتلكات المواطنين، ألم يقتل المدنين والشيوخ والأطفال ويغتصب النساء، ألم يهاجم الأسواق ويحرق المؤسسات وينهب البنوك ؟ عندما نقرأ التاريخ نجد أن الدعم السريع قد سار على نهج الإنكشاريين حذو الحافر بالحافر، بل إن الإنكشاريين الجدد فعلوا الكثير المشين أكثر مما فعله الإنكشاريون الأوائل. ولكن من أين جاء الإنكشاريون الجدد ولماذا جاؤوا الى بلادنا أصلا، وكيف يفكرون ولماذا يستبيحون الحرمات ويسفكون الدماء ويروعون الأمنين بلا رحمة وبلا وازع ؟ هذا ما سنناقشه فى المقال القادم.