السودان الدولة المضطربة ..الجيوش الموازية والمليشيات نهايات ام بدايات جديدة

بقلم: د . الفاتح الحسن المهدي
_السودان الدولة الثالثة افريقيا من حيث المساحة وذو التركيبة البشرية المتنوعة والمتعددة والاثنيات المنقسمة بينه وبين جيرانه والرابط بين الشمال الافريقي ومنطقة الساحل والصحراء والقرن الافريقي لم يجد الباحث في التاريخ السياسي السوداني بيتر ودارد من ان يجد توصيفا له في الفترة من 1898 وحتي العام 1989 عنوانا مناسبا لبحثه الا السودان الدولة المضطربة (troubled state) ولو اكمل بحثه حتي العام 2023 لعاش تراجيديا الاضطراب الجديد في أكبر تجلياته .
فما ان عزف النشيد الوطني السوداني ورفع العلم فوق سارية الدولة الجديدة ولم يفيق حتي بدات كوابيس الانقسامات والحروب والمجاعات واحزمة الفقر تحيط بهم من كل جانب .مخلفة وراءها الاف من الروايات والقصص المأساوية وملايين من الضحاياوالنازحين واللاجئين بدواعي المظلوميات والتهميش تارة والحروب الاثنية والنزاعات القبلية والصراع علي السلطة والموارد وصراع الهويات الذي شطر الدولة المضطربة الي قسمين وخلف حروبا أخري لم تترك مبضعا لمشرط في الجسد المنهك .
وما ان خرج اخر جندي بريطاني من السودان حتي بدا سم الافعي التي تمت ترجمتها باللهجة الجنوبية إلي اسم (انانيا) يسري في الجسد الناحل فبدا الاضطراب سنوات امتدت حتي السبعينات مخلفة وراءه اجنين الانفصال في وجدان الجنوبيين لم يستطيع اتفاق السلام الذي انتهت به من ان يبدد هواجسهم جراء الانشقاقات والانقسامات التي ضربت الافعي وافشلت قدرتها وافقدتها القدرة علي الفعل ولكن بدات بذرة المولود في النمو الي ان اندلعت الحرب الاهلية في عام 1983 تمثل حركة تحرير تجاوزت مرحلةً لدغات الافاعي واستمرت حرب الهويات حتي انتهت في العام 2005 بإتفاق نيفاشا الذي انتهي بانفصال جنوب السودان وتقسيم البلد الي شطرين ومعلنا ميلاد دولة جديدة
تداعت الاحلام مرة اخري الي مخلية السودانيين بانتهاء الحروب وشلالات الدماء ولكن باغتتهم مرة اخري كوابيس قيام جنوب جديد في منطقتي جنوب كردفان والنيل الازرق وبحركةً تحرير متجددة. تمثل الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال امتدادا لاطول حرب حديثة خلفت 4 مليون نازح وعدد من الضحايا يقدر بمليون شخص
🖋️دارفور حروب الهويات الاثنية وبزوغ فجر المليشيات
لم تنته دموع السودانيين ولامنظمات العمل الانساني من حصر ما خلفته حرب الجنوب من ازمات وماسي وتهميش حتي بدا فاصلا جديدا منذ بدايات حقبة التسعينات بعد الانقلاب الذي قاده العميد انذاك عمر حسن احمد البشير والذي عرف بثورةً الانقاذ الوطني علي حكومة السيد الصادق المهدي التي انتخبت بعد حكم عسكري مثالي راسه المشير الراحل سوار الذهب والذي انتهي بحكومة مدنية انتخبت ديمقراطيا عانت من الحرب الداخلية والانقسامات السياسية حتي ان رئيس وزرائها كان يردد في كل المنابر عبارته المشهورة (اذا فشلت فلن اشيع باللعنات)
بدات الحرب الاهلية في دارفور في حقبة التسعينات حيث اشعل فتيلها الزعيم الطلابي السابق دواود يحي بولاد المنتمي الي اثنية قبيلة الفور التاريخي وصاحبة اخر سلطنة في دارفور وكآن رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم وقاد ثورة شعبان ضد حكومة مايو بقيادة النميري وانتهي به الحال تحت رعاية زعيم الحركة الشعبية الراحل الدكتور جون قرنق سانده عبد العزيز الحلو في قيادة حملة مسنودة من الحركة الشعبية الام ضد سلطة المركز احتجاجًا علي التهميش لإكبر المجموعات الاثنية وتوزيع انتهت بخسارة بولاد وهروب الحلو وتركت اثارا غائرة في الجسد السوداني المنهك بالحروب
تجدد النزاع مرة اخري بصورة اكثر عنفا باعلان حركات من دارفور التمرد فخرجت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور المحامي ومعه مجموعة من المثقفين من التيار الليبرالي واليساري والقومي مثلت حاضنته مجموعة الفور وبعض مجموعات الزغاوة واعلن اسلامي اخر انشقاقه واعلان حركة العدل والمساواة وهو الدكتور خليل ابراهيم فانضم اليه الناقمين بعد مفاصلة الاسلاميين الشهيرة بالمركز وعززت من خطاب الهامشية والاضطهاد من قبل المجموعات العربية لمجموعة القبائل غير العربية والتي تعرف اصطلاحا بقبايل الزرقة وتناسلت الحركات والمجموعات المسلحة بانقسامات داخلية وانشقاقات اثنية وتحيزات ايديولوجية وتنامت ظاهرة التجييش في الاقليم المنقسم اثنيا في دولة مضطربة مصطحبا معه اقاليم الجوار في جنوب وغرب كردفان فاصبحت لكل مجموعة سكانية ملشياتها وحركتها وانقسم المنقسم الي مجموعات اخري لا تكاد تحصي عدد الجبهات والتحالفات
🖊️التجييش المستمر والجيوش غير النظامية
ظل الايقاع متسارعا في تجييش المجموعت في ظل حالة التراخي والفوضى وغياب سلطة القانون وثقافة اخذ الحقوق بالقوة والمحافظة علي امتياز المجموعات المسلحة في حالتي السلم والحرب عزز ذلك البطالة ووجود اعداد كبيرة من الشباب في واقع إقتصادي مرير مع حوافز ترغيب بالرتب العسكرية والسيطرة علي الموراد الزراعية والمعدنية فنشات سياقات اجتماعية واقتصادية وازدهرت اوضاع المليشيات والصرف علي الجيوش يقابله تخلف تنموي واحباط للانتماء الي الموسسات النظامية الوطنية التي تضعف فيها المخصصات وترتفع فيه المهنية والانضباط فاصبحت هناك مناطق محررة ولوردات وجنرالات
لم يعد الجيش الوطني هو المحتكر الوحيد لشرعية العنف في السودان حيث قامت جيوش أخري في فترات تأريخية وتعاظمت اثار الجيوش والمجموعات المسلحة العابرة للحدود لتجانس عناصرها الاثنية وهشاشة الانظمة كلما بعدت عن مركز السلطة مع وجود ديناميات محفزة من الثورات وخطاب المظالم التاريخي وكلما اختلفت النزاعات بين الدول واختلف اصطفاف المعسكرات كلما ازدهرت المليشيات والجيوش غير النظامية التي تفرض نفسها علي واقع لم تجد الدولة الا دمجها في مؤسساتها النظامية والمحافظة علي امتيازات لورادتها في السلطة والثروة فنشات عشرات من الاتفاقيات وتناسلت الازمات في جسد مضطرب
تطورت المليشيات والجيوش المسلحة الموازية سلما وحربا فسيطرت علي المواقع والموراد وتمكنت من بناء قدرات تسليح يجعلها متفوقة بنمط حروب جديدة في مناطق الساحل والصحراء والتي تعتمد علي سرعة الحركة وكثافة النيران وعدم المحافظة علي الارض مما يجعل مهام الجيوش الوطنية في مجاراة هذه النمط من الحروب –
وتمددت المليشيا والجيوش في الجوار في كل نزاعاته الداخلية في تشاد او افريقيا الوسطى او ليبيا وارتبطت كذلك بشركات عسكرية مثل فاغنر الذي اصبحت ثابتا في الصراع الليبي والصراع علي السلطة في افريقيا الوسطى مما غير من طببعتها. واكسبها قدرات استثنائية للمواجهات وامتلاكها قدرات اتصال متقدمة ومراكز امداد وتدريب وحماية دولية ذات اقطاب متنافرة يساعدهم في ذلك حالات الانقسامات الداخلية في هذه الدول والحروب المستمرة التي تحتاج الي امداد كتل بشرية لتوفر الموراد والتسليح المتطور مع سيولة الحدود مما يجعل مناخ الفوضي ملازما ومؤثرا علي السودان وجواره مما أثر في اطر التموضع الدولي الجديد والصراع الفرانكفوني الروسي في المنطقة فتحولت الي ادوار موثرة اقليميا متحركة في مساحات الفراغ و حروب لا تنتهي معززة من فرص اللادولة وتازيم المازوم في مناخ علاقات مضطرب اقليميا
🖋️الدعم السريع الصعود وحافة الهاويةً
فكرةً التجمع العربي في اقليم دارفور وتشاد والنيجر وليبيا تحالفية متجددة كلما ادلهمت الخطوب بالمجموعة اعادت انتاج التجمع بانماط ومتغيرات تواكب التطور وعندما بدأت مشروعات الجماهيرية العربية الليبية ورائدها الرئيس الليبيي الراحل معمر القذافي تقدمت فكرة التجمع الي الامام بعد الصراع الشرس مع نظام مايو في السودان والحرب الليبية التشادية فتجمعت المجموعات العربية مدفوعة بايديولوجية عربية توحدهم وعمد القذافي الي توظيفهم في حروبه لكسر عظم النظام التشادي وبدا خطاب سياسي. للتاسيس في السودان مدعوما بمطالب إبان حكومة السيد الصادق واطلق عليه مشروع (قريش ) مطالبا بتسليحه لصد هجمات المجموعات الاخري عليه واشرف علي تسليح وتنظيمه اللواءمعاش فضل برمه ناصر رئيس حزب الامة الحالي ووزير الدفاع في حكومةً السيد الصادق المهدي بعد عجز الدوله عن حمايتهم وحسم النزاعات وبعد غياب شمس الديمقراطية الثالثة في السودان. وتجدد الحرب في دارفور بدا التجمع القديم في ثوب جديد باسم قوات حرس الحدود في عهد ألرئيس البشير والتي قادها الشيخ موسي هلال وهو من عرب الرزيقات المحاميد وهم ينتشرون في النيجر وتشاد وليبيا وفي مناطق الساحل والصحرا ولحق بهم قبل تسميه حرس الحدود لفظ الجنجويد الذي ساهم في رفع وتيرة العنف بين المجموعات الاثنية في دارفور وكانت وصمة خصومهم بالجنجويد تنم عن استهجان وتعبر عن شتات متحرك يعتمدون في حياتهم علي التنقل ومهنة الرعي مع غياب التعليم واثبت قوات حرس الحدود فعالية كبري في مواجهة الحرب الجديدة في دارفور وصعد نجم قائدها سرعان ما بدا عناصر الصراع بين قادتها والتمايز بين المجموعات الداخلية بين الشيخ موسي هلال و محمد حمدان دقلو حميدتي. والذي بدا تحت قيادة هلال تمملل بعدها وتمرد عليه ومارس احتجاجا علي حكومةً الخرطوم وبدا بالاتصال بخصوم الامس فسارع المركز باحتوائه ومنحه رتبة عسكرية فانفرد بثقة الرئيس السابق عمر البشير ومثلت معاركة ضد حركات التمرد عبورا به وبقواته الي تعزيز وضعها بقانون وضعها تحت قيادة الرئيس مباشرة والذي اوكل لها مهاما اخري قادتها الي علاقات متشابكة ومستترة مع دول الاتحاد الاوربي في مكافحةً الهجرة غير الشرعية وتجارة المخدرات العابرة للحدود وتعززت مكانته مرة اخري بالمشاركة في حرب اليمن الي جانب السعودية والامارات
تمكن الدعم السريع من فرض ارادة قيادته وبسط نفوذه علي الاخرين بحماية الرئيس فتطورت قدرته الاقتصادية في مجال تنقيب وتصدير الذهب في كل السودان بمشاركة الشركات الروسية فاستولي علي اهم مناطق التعدين في السودان
بعد التغيير الذي اجتاح السودان ونهايةً حقبة ازدادت نجومية قائده وقواته التي كاد ان يعصف بها فض اعتصام القيادة العامة والذي راح ضحيته المئات الا ان التحالفات السياسية والتنازلات التي قدمها اعادت له البريق مرة اخري نائبا لرئيس مجلس السيادة ومستمرا في السيطرة علي المراكز المالية والبنوك وموسسات الصناعة وتجارة المواد البترولية ولافتات اقتصادية وشراكات في مجال الاستثمار والرياضة. وبناء منظمومة اتصالات جديدة وموسسات الاعلام من صحف ومراكز وداعب احلام الشباب في تاسيس بنك للانتاج فاصبح الدعم السريع القوة الحاكمة الحقيقية والتي مثلت مزيجا من المليشيا والجيش غير النظامي ومشاريع اقتصادية وعلاقات دولية خاصة بها وهيئات للمستشارين لجيش شبه نظامي
🖊️رهانات الصعود والهبوط بعد اشتعال الحريق
..بعد ابرام اتفاق جوبا للسلام بمشاركة المدنيين والعسكريين التي لم يتخلف منه الا حركتي تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور و الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو استمر تناسل المجموعات المسلحة والمنابر والطامحين والطامعين ومجموعات لم يكن لها تأثيرا علي الارض فاضيف شمال السودان ووسطه فتوسعت محاوررالاستقطاب واتي الاتفاق بكلفة جديدة ارتدادية مثلتها مسميات جديدة مثل قوات درع الوطن وقوات درع السودان ومجموعات في شرق السودان متسابقة الي اوكازيون التجييش والامتيازات
وزادت مساحات العسكرة وارتفعت حدة الاستقطاب وانتشار السلاح والعنف والمخدرات وانتهاكات لحقوق الانسان من اختطاف وتعذيب وقيام مراكز جديدة مدعومة بالسلاح بعد تاخر بند الترتيبات الامنية وتشظي النخب السياسية وانهيار مشروعات التسوية السياسية تحت الرعاية الاممية واصبح المشهد اكثر اضطرابا يسارا ويمينا ومجموعات ليبرالية في ظل ضغوط التدخلات الخارجية فاختلفت المطالب وتعددت المنابر وازدادت حدة التشرذم فانهارت التحالفات الهشة في المنظومة الحاكمة من عسكريين ومدينين وتقاسم الفواعل الذين يمتلكون السلاح . واخير اسدل الستار علي مشهد مروع باندلاع الحرب بين الجيش والجيش الموازي قوات الدعم السريع ليشهد السودان اكبر ازمة في تاريخه بعد انفصال جنوب السودان تهدد بقاءه او تفضي الي سيناريوهات الحالات الليبية المنقسمة آو اليمينية التي انحدرت الي حرب اهلية .
والسيناريو الراجح أن ينتصر الجيش وينجح في الوصول الي جيش مهني واحد وهي مهمة صعبة في ظل تمدد المراكز الداخلية والخارجية وتعدد ادوات الضغط العنيفة ولكنها ليست مستحيلة .
……..
الكاتب
أستاذ بالجامعات السودانية في مجال الفلسفة السياسية