ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد

بقلم: د. ميادة الطيب البدوي
dr.mayada22388@gmail.com
(الفصل الرابع: جسدٌ لا يُمسّ)
بعد هيثم، لم أعد أبحث عن حوارات طويلة، ولا عن قهوة بطعم الأدب، ولا عن أحد يسألني عن جدتي.
كنت أحمل في داخلي مرارة الاكتشاف… أن حتى أكثر الرجال هدوءاً يمكن أن يحملوا داخله قيداً، وربما سوطاً، ملفوفاً بورق القصائد.
لكن القاهرة، كعادتها، لا تنتظر أن تتعافى.
كانت تدفعني دفعاً نحو دوائر جديدة، وجوه جديدة، ودوار جديد.
عملتُ وقتها في إحدى دور النشر، محرّرة بالساعة.
كنت أُعيد ترتيب الفصول المبعثرة في روايات الكتّاب، بينما لا أزال عاجزة عن ترتيب فصول حياتي.
وفي إحدى الورش الأدبية التي نظمتها الدار، التقيت بـ سامي.
شاب في منتصف الثلاثينات، قادم من المغرب، يرتدي السواد كأنه في حدادٍ دائم.
كان يكتب نصوصاً غامضة عن الجسد… الجسد كهوية، الجسد كفقد، الجسد كمساحة انتهاك.
لفتني حديثه عن “النجاة من اللمس” كما قالها.
كأن كلانا نجا من شيء لم يُقل.
تقاربنا من حيث لم ننتبه.
لم يكن بيننا حب، ولا محاولة للتقارب العاطفي.
لكن شيئاً عميقاً كان يحدث.
كأن أجسادنا، رغم المسافة، تعترف ببعضها… وتقول لبعضها: أنا مثلك، لا تُدنِ منك أحداً.
حكى لي ذات مرة عن صديقة له تعرّضت لتحرّشٍ عنيف في طفولتها، وكيف أنها حتى اليوم لا تحتمل المصافحة.
قلت له: “ربما نحن جميعًا ضحايا… بدرجات مختلفة.”
ردَّ بهدوء:
“نعم… لكن البعض منا تحوّل إلى لغمٍ لا يعرف متى ينفجر.”
شعرت أنني أقف على حافة هذا الانفجار.
كل رجل مرّ في حياتي ترك شيئاً صغيراً خلفه… كلمة، لمسة، صمت، تحذير، خيبة.
حتى الذين لم يقتربوا… اقتربوا بما يكفي ليتركونني أقلّ يقيناً بنفسي.
مع سامي، لم يكن هناك حب.
كان هناك ما هو أندر: احترام الخوف.
كنا نتحدث طويلاً عن مدن لا نحبها، عن آباء لم يفهمونا، عن وطنٍ لا يحتمل أنثى بصوت.
وكان يقول لي دائماً:
“أنتِ لستِ وحدكِ… فقط، لا تنتظري من أحد أن يُخرجكِ من الوحدة.”
ومنذ ذلك الوقت، بدأت أكتشف أنني لا أحتاج إلى أن يحبني أحد كي أشعر أنني موجودة.
بل أن أؤمن أنا، بأني أستحق أن أكون… دون تبرير، دون تعديل، دون خوف.
لا أريد رجلاً يقترب منّي كي يداويني، بل أريده أن لا يفتح الجُرح من جديد.
وفي كل مرة كنت أعود إلى غرفتي، أكتب على قصاصة ورق:
“أنا جسدٌ لا يُمسّ، إلا بإرادتي.
أنا ذاكرة لا تُشوّه، إلا إن سمحتُ بذلك.”
ومن تلك القصاصات، بدأتُ أكتب أول كتاب لي… عن النساء اللاتي خُدعن باسم الحماية.
تابعوا سلسلة “ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد”

