التعليم في سودان ما بعد الحرب (١-٢)

التعليم في سودان ما بعد الحرب (١-٢)
بقلم :محمد الشيخ مدني
مدخل أول : لعل الغالبية العظمى من التربويين ، إن لم يكن جميعهم ، يتفقون تماماً أن التعليم في السودان محتاج لمراجعات ومراجعات إذا أردنا أن يكون السودان من الدول المتقدمة بما يتناسب ومواردها الطبيعية … وإمكاناتها البشرية … ولعل أهم عاملين قادا لنهضة كثير من الدول هما التعليم ومحاربة الفساد … إن شاء الله سيكون تركيزي هنا على التعليم ، المجال الذي ولجته وعايشته منذ أوائل ستينات القرن الماضي … وقد رأيت أن فترة الإحتراب القائمة حالياً في الوطن لا بد أن يأتي قريباً اليوم الذي تضع فيه أوزارها … ولا بد من بناء السودان الجديد … سودان ما بعد الحرب … سودان يواكب عالم اليوم … عالم أهم سمات حضارته العلم والتكنولوجيا … رأيت أن هذه الفترة فرصة للتربويين للتحاور … والتداول … وتبادل الرؤي حول تعليم ما بعد الحرب في السودان … مدخل ثان : بعد الثورة الرقمية وإنفجار المعلوماتية في عالم اليوم لم يعد تعريف الأمية هي عدم الإلمام بالكتابة والقراءة … إنما الأمية الحقيقية أصبحت عدم معرفة التعامل مع الحاسوب وعلومه … ولم يعد تعريف التعليم العام في بلد متقدم مثل اليابان هو مرحلة ما قبل التعليم الجامعي … بل أن مفهوم التعليم العام في اليابان يشمل التعليم الجامعي … ليكون تعريف التعليم العالي هو البحث العلمي ما فوق الجامعي … مدخل ثالث : في عالم اليوم لم يعد الإستثمار المربح قاصرا على الزراعة والصناعة والتجارة … ولم يعد الإستثمار الربحي محتاجا لرأس مال … فقد أصبح العقل البشري والإبتكار في مجال التكنولوجيا والبرمجيات أكبر إستثمار للحصول على الموارد المالية … بل ومصدر الثراء في عالم اليوم … مدخل رابع : لعل السودان من البلدان القليلة التي عايشت متغيرات في السلم التعليمي في التعليم العام … حيث بدأ السلم التعليمي أيام الإستعمار البريطاني بإثني عشر عاما (٤ + ٤ + ٤) … ثم تحول في فترة الحكم المايوي لإثني عشر عاما (٦ + ٣ + ٣) … وقامت الإنقاذ بتعديلين في السلم التعليمي … تقليص فترة التعليم العام من إثني عشر عام إلى أحد عشر عام وتقسيم المراحل لإثنتين (٨ + ٣) بديلا عن ثلاث … ثم أخيرا صدر في الفترة الأخيرة قراران حول السلم التعليمي … الأول في آخر أعوام حكم الإنقاذ وقضى بإرجاع العام الثاني عشر للتعليم العام … والثاني بعد الثورة الذي قضى بإعادة المرحلة المتوسطة في التعليم العام … والرجوع لنظام الثلاث مراحل (٦+٣+٣) … مما يعني الرجوع للسلم التعليمي المايوي … وبعد هذه المداخل الأربعة سأتناول في طرحي هنا رؤيتي الشخصية المبنية على تجربة أكثر من ستين عاما في مجال التعليم ومعايشة للسلم التعليمي منذ فترة الإستعمار … أولا : لعل البداية هي التأمين الكامل على عودة العام الثاني عشر للتعليم العام … فعودة العام الثاني عشر للتعليم العام ليس موضع جدل بين التربويين … ولكن يبقى السؤال أين يكون موضع العام الثاني عشر ؟ … وأرجو أن أشير هنا أنه في واحد من المؤتمرات التربوية التي أقيمت في بخت الرضا جاءت التوصية بأن يضاف العام الثاني عشر للمرحلة الثانوية … وفي رأيي المتواضع أن العام الثاني عشر فعلا ينبغي أن يضاف للمرحلة الثانوية لتصبح أربعة سنوات … وستكون حيثياتي لهذا الخيار من خلال تحليل لسبعة محاور وهي : المراحل … المنهج … المعلم … الطالب … البنى التحتية … التمويل … الزمن … على النحو الآتي : – (١) المراحل : كما ذكرنا في البداية أن السلم التعليمي كان ثلاث مراحل بمسميات مختلفة … ثم تحول إلى مرحلتين … ثم عاد أخيرا لثلاث مراحل … لعلنا متفقون أن العملية التعليمية هي مدخلات ومخرجات … ولنأخذ عينة عشوائية من ألف طفل … وندخلهم في النظامين لنرى مخرجات النظامين لفترة ما قبل التعليم الجامعي … ولنفترض أن نسبة النجاح في الإمتحان من مرحلة لأخرى ٧٠% … ونقارن بين دخول الألف تلميذ للنظامين والناتج لكل منهما … ففي نظام الثلاث مراحل يتقلص التلاميذ من المرحلة الإبتدائية للمتوسطة إلى ٧٠٠ تلميذ (١٠٠٠×٧٠%) … ويتقلص السبعمائة تلميذ من المرحلة المتوسطة إلى الثانوية إلى ٤٩٠ تلميذ (٧٠٠×٧٠%) … أي أن الفاقد التربوي في نظام الثلاث مراحل ٥١٠ تلميذ (٥١%) … في حين أن الناجحين في نظام المرحلتين سيكون ٧٠٠ تلميذ (١٠٠٠×٧٠%) لدخول المرحلة الثانوية … ويكون الفاقد التربوي في نظام المرحلتين ٣٠٠ تلميذ (٣٠%) … إذن المفاضلة ترجح الإبقاء على نظام المرحلتين وليس العودة لنظام الثلاث مراحل … وما دام الترجيح أصبح للمرحلتين فمن الطبيعي أن نرجح إعادة العام الثاني عشر للتعليم العام للمرحلة الثانوية لتكون أربعة أعوام بدلا عن ثلاثة …
ولعل جيلنا من الذين عايشوا السلم التعليمي(٤+٤+٤) دراسة أو تدريسا يعلمون أن ذلك السلم كان متميزا في تقسيم المعارف وتجزئتها على المراحل الثلاث المتساوية وتناسبها مع التطور العقلي للطفل … والآن تضاف إليها ميزة إضافية وهي دمج الثمانية أعوام الأولى دون فاقد تربوي … ولا أعتقد أن هناك من يرى إضافة العام الثاني عشر للثمانية أعوام الأولى لتكون تسعة يتم تقسيمها (٦+٣) مع إمتحان تصفية بينهما … (٢) المنهج : لا يختلف إثنان أن المنهج الحالي قاصر تماما عن تنشئة جيل مواكب يقود الوطن للنهضة المرجوة … ويحتاج لمراجعات في المضمون والكم والكيف … ولعلي أشير هنا إلى أن واحدا من أهم أهداف التعليم العام هو التأهيل للتعليم العالي … وبمراجعة محاضر مؤتمرات التعليم العالي والبحث العلمي السنوية … نجد أنه لم يخل مؤتمر واحد من شكوى مديري الجامعات من عيبين لدى الطلاب القادمين من التعليم العام … الأول : أن هناك ضعف واضح في قدرة الطلاب على التعبير عن أنفسهم باللغتين العربية والإنجليزية … شفاهة أو كتابة … والثاني : أن طلاب الكليات العلمية يأتون للكليات العلمية بأساس ضعيف في مجال تخصص الكلية العلمي … وسأضرب هنا مثالا واحدا من مادة الرياضيات التي أدرسها تخصصا … ففي مراحل التعليم العام ندرس (نظرية المجموعات) على أنها درس في مادة الرياضيات … ندرسه ثم ننتقل منه لدرس آخر … والحقيقة أن (نظرية المجموعات) هي لغة للرياضيات وليست درسا في الرياضيات … فالطالب الذي يدخل الجامعة يصطدم بتعامل المحاضر مع نظرية المجموعات كلغة في حين أن الطالب لا يفهم هذه اللغة … أضف إلى ذلك أن هناك رأي عام في المجتمع يقول أن المنهج في التعليم العام فيه كثير من الحشو غير المفيد … وللتعامل مع هذا الضعف ينبغي أن نعيد النظر في المناهج من حيث الكم والكيف … (أ) في تقديري أن الحد الأدنى من تقليص المناهج ينبغي أن يكون في حدود ٣٠% … (ب) إضافة نوعية لمفردات المنهج لتواكب الإعداد للتعليم العالي … والتركيز على العلوم الحديثة خصوصا مادة الرياضيات وعلوم الحاسوب … (ج) الإهتمام والتوسع في التعليم التقني وإدخاله ضمن المنهج العام … وفي تقديري أن التعليم العام لن يكون إعدادا جيدا للتعليم العالي إلا إذا أضفنا العام الثاني عشر للمرحلة الثانوية …