شـــــــوكة حـــــــوت

ياسرمحمدمحمود البشر
أحزان حوش الخليفة
*لأول مرة منذ أكثر من مائة عام ويزيد يثدثر ميدان حوش الخليفة بالسواد حزنا على ما أصاب الخرطوم من خراب ودمار ولأول مرة يصمت صوت الطار ويتوقف حداء مادحى سيدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحوش الخليفة فى مثل هذه الأيام ويتحول ميدان حوش الخليفة الى سرداق عزاء إفتراضى لكل السودانيين الذين لقوا حتفهم جراء الحرب التى دخلت اليوم شهرها السادس ويتوقع أن يرتفع عدد الضحايا طالما أن الحرب ما زالت مستمرة وهناك من ينتظر أن يكون الضحية القادم فى حكم الجنازة المؤجلة لم يتوقع أكثر الناس تشاؤوما أن يكون حوش الخليفة بذياك الحزن وهذا الشحوب وهذه الغبرة التى تعلوه لتعلن للناس أجمعين أن هناك صفحة من تاريخ السودان قد إنطوت الى الأبد وخبأ بريق نور التسامح بين مكونات الشعب السودانى وأصبح الدم السودانى أرخص السلع وصار قتل النفس أسهل وأبسط من ذبح عصفور والمدهش أن القاتل يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويكبر ويهلل والمقتول يردد ذات العبارات من تشهد وتكبير وتهليل القاتل لا يعرف لماذا قتل اخاه والمقتول لا يعرف فيما قتل.
*لم تئن النوبة هذا العام بميدان حوش الخليفة تحت ضربات شيخ يرجحن كما صورها الصوفى المعذب محمد المهدى المجذوب بينما إرتفع أنين سكان أم درمان القديمة تحت ضربات الدانات والمسيرات وإنتشرت رائحة الموت فى كل مكان ولم يعد هناك درويش يحمل سبحة اللالوب ويلبس المرقع ويردد فى أمن وأمان ذكر إسم الله لم يرتفع صوت الآذان حتى من مسجد الخليفة ولم تتزاحم الأرجل بشارع العرضة وشارع الموردة حتى محطة الشهداء الى ود أرو والهاشماب والكمندانية ولم يعد هناك ما يدل على وجود مشهد من مشاهد الحياة بميدان الخليفة غير رائحة البارود الممزوجة برائحة الموت ولا مجال للتلاعب بالمعانى والألفاظ فالداخل الى ساحة حوش الخليفة فى عداد المفقودين والخارج منه كمن عاد الى الحياة بعد رحلة شاقة للدار الآخرة وغابت كل مظاهر الإحتفال بأعياد المولد لهذا العام وحل مكانها الحزن والكآبة والوجع وإجترار الذكريات.
*لم تخرج أم درمان هذا العام إحتفالا وإحتفاء بزفة عيد المولد ولم تعلو صافرات عربات النجدة من محلية كررى مرورا بمحلية أم درمان حتى ميدان حوش الخليفة بعد أن تتخذ الطرق الصوفية أماكنها فى ساحة الميدان وتعلو أصوات مكبرات الصوت لتمتزج أصوات المدائح مع الأناشيد وحلقات الوعظ والمداح والصلاح والزاهدين والذاكرين والعابدين هذه المظاهر أصبحت أثر بعد عين وذكرى فى صفحات تاريخ أم درمان الموثق مع العلم أن أم درمان تمثل نموذج للسودان المصغر كل هذه المهرجانات ذهبت أدراج الرياح وحل محلها الخراب والويل والثبور فلا حوش الخليفة بذات الألق والطهر والنقاء ولا الإحتفال فى ساحته إحتفال لم يكن هناك أدنى إحساس بالإحتفال بأعياد المولد بقدر ما أن الحزن هو صاحب التوقيع الإبتدائى والنهائى لهذا العام ولا مكان للافراح ولم يتبق شبر فى ميدان حوش الخليفة إلا وفيه أثر تاتشر محروق أو رائحة موت أو دانة متفجرة أو جثث متناثرة نهشتها الكلاب وهى على مرمى حجر من مستشفى أم درمان وتعذر نقلها للمستشفى أو مواراتها الثرى.
*لم تتزين جنبات ميدان حوش الخليفة بمحلات الحلويات ولم تتكحل عيون أطفالنا بمنظر العرائس أو حصين حلاوة المولد وغابت عن شفاههم الإبتسامة ونسوا تماما أن هناك مناسبة أعياد المولد لهذا العام بعد أن عاشوا نصف عام من الحرب وتحولت لغتهم من لغة السلام الى لغة (الجغم والمتك والبل ودنيا زايلى وزايل نعيمها) وواهم من يردد (عشان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة) فعيون أطفالنا شاهدت الموت وأصابها الهلع جراء سقوط القذائف والدانات على رؤوسهم وفقدوا الطمأنينة والسكينة وأصبحوا دروع بشرية يحتمى بهم المتقاتلين ويحولونهم الى أهداف واجبة الإستهداف وسهلة الإستصطياد فكيف تذوق عيون أطفالنا هذه الهزائم وآبائهم يصرون على مواصلة القتال والإمعان فى الموت والقتل والتشريد.
نـــــــــــــص شـــــــوكــة
*لم تعد أم درمان القبة البتضوى الليل وتهدى الناس سلام وأمان ولم تعد أم درمان تلك المدينة الفاضلة التى ولدت بالتهليل وتحولت رماحها سهام مرتدة فى صدور أبنائها أصبحت مدينة من دون عنوان ومن دون وجيع مستباحة المستشفيات ومحتلة الإذاعة والتلفزيون لا هلال فيها ولا مريخ ولا يوجد من يستمع الى صوت العقل هكذا جاءت ذكرى المولد هذا العام.
ربــــــــــع شـــــــوكـة
*أصبحت القدلة فى الطريق الشاقى الترام ضرب من ضروب الخيال وتجولت فى طرقات أبوروف التاتشرات والعربات القتالية وترملت بت ملوك النيل بعد أن مورست عليها شتى أنواع الإنتهاكات وعبثت فاتنة المسالمة وإنتحبت ماجدة حى العرب ومدت بصرها نحو بيت المال والعرضة والملازمين وحى مكى والكل فى حيرى لما جرى ولم يعد للزهور صحو ولم يعد للثريا موضع للجمال فى أم درمان.