من حكايات الترحال

آمنة الفضل
مدينة البحر والقهوة
لا أنكر أنني شعرت بالانزعاج مرارًا… وأنا أحمل حقيبة سفري جيئةً وذهاباً من وإلى مطار بورتسودان، على مدى ثلاث أيام متتالية.
أحمل جواز سفري وبعض أشواق قديمة، أيقظها صوت الطائرات وهدير أمواج البحر الأحمر.
فتحت مدينة البحر أبوابها مشرعة بوجهي.. مبتهجة بقدومي إليها أخيرًا.. شعرت أنها كانت تنتظرني على مشارف بوابتها الحصينة عند العقبة. ثم خرجت من ضيق الجبال إلى فضاء البحر، تحملني أجنحة النوارس وتوشوشني أصداف البحر.
الناس هنا كُرماء. ينثرون الحب والأمنيات.. يضحكون رغم الخطر الذي يحدق بهم كل ليلة. يبددون هجوم القنابل القاتلة وهدير المضادات الأرضية، بصوت الأمل والدعاء ورائحة القهوة.
فنجان تلو الآخر يحمل عبق البخور السوداني العتيق وطعم الزنجبيل الحار.. حكايات الموانئ والسفن مابين شوق وانتظار.. وداع واستقبال. خوف وابتهال.
لم أشعر وقتها وأنا أقلب أوراقي وصفحات الكتاب الذي أحمله، بالجهد الذي يبذله الطيران المدني السوداني والقوات النظامية، حتى نحظى بعبور آمن، من سماء السودان إلى وجهتنا القادمة.
كنت أرى الأشياء ساعتها بعيني التي تتوق إلى مصافحة محطتي التالية.
ظللت أخطو ببطء داخل صالة المغادرة ، بينما تدور عيني في كل الاتجاهات علّني أجد مقعداً ينسيني ساعات الإنتظار في باحة المطار الخارجية، حتى فقدت الشعور بقدمي.
ثم لا تلبث و تتفاجأ بالعاملين هنا يسابقون الزمن وخوف المسافرين.. يشعرونك بالطمأنينة رغم آثار الحرائق والقذائف، والتي حولت المكان إلى ساحة قتال واضحة الدمار.
لم تكن الابتسامة تفارق وجوههم. وعبارات الترحاب تسبق رشفة القهوة إلى فمك من الفنجان الذي بين يديك… يأخذونك إلى لحظة آمنة .. في الوقت الذي أضحت فيه كل اللحظات مفخخة. إذ لا يمكن التنبؤ بما هو آت بين ثانية وأخرى.
وقتها كان الوصول إلى مدرج الطائرة بمثابة معجزة.
أخذت نفساً عميقاً وأنا أتسلق سلم الطائرة.. لوحتُ مودعة مدينة البحر… ممتنة لكل أولئك الجنود الذين يديرون المعركة في صمت… لكن بكل الحب والتفاني.


