آخر الأخبارثقافة وفنون

ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد


بقلم: د. ميادة الطيب البدوي
dr.mayada22388@gmail.com

(الفصل الخامس: مرآة على جدار الغياب)

أعتذر عن انقطاع هذه السلسلة لبعض الوقت، فقد داهمتني وعكة صحية جعلتني أُعيد النظر في جسدي، لا بوصفه جرحاً فقط، بل كجدارٍ يذكّرني بأنني ما زلت هنا… وما زال عليّ أن أكتب.

في شتاء باريس الثاني، وجدت نفسي أشتاق لشيء لم أعرفه بعد.
ليس الوطن… فقد كنت قد تجرّعت من غربته ما يكفي.
وليس الحب… فقد صرت أعرف كيف يتنكر في ملامح كثيرة، ولا يعود أبدًا بنفس الشكل.

كنت أشتاق لي.

الفتاة التي كانت تقف أمام المرآة في بيت العائلة بأم درمان، تسرّح شعرها بسرعة قبل أن يسمع أحد صوت مشطها.
الفتاة التي كانت تغني مع نفسها بصوتٍ منخفض، وتكتب رسائل طويلة في دفاتر الرياضيات.

أين ذهبت؟
وهل يمكن أن نلتقي أنفسنا في مدينة غريبة؟

ذات صباح باهت، وبينما كنت أعبر رصيفاً مبللاً بالمطر في مونتروي، لمحت فتاة تشبهني.
كانت ترتدي وشاحاً سودانياً مطرزاً بخيوط ذهبية.
نظرت إليّ، ولم تبتسم… فقط قالت بالعربية:
“انتي من وين في السودان؟”

تلعثمت.
كيف أشرح أنني لم أعد أعرف؟
أنني من حيٍّ كنت أهرب منه، ومن أسرةٍ أحبها وتؤذيني، ومن وطنٍ يحملني تارةً، ويرميني مرات؟

قلت:
“من أم درمان… لكني نسيتها.”

ضحكت تلك الفتاة، ومدّت يدها:
“أنا آمنة… بنت الدويم. وباريس ما بتنسي، بتذكّر.”

ومنذ تلك اللحظة، صارت آمنة مرآتي.
كانت تشبهني في كل شيء… إلا أنها لم تعد تخاف.

تحدثنا عن كل ما يؤلم:
عن الزواج القسري، وعن الأجساد التي لا تُحترم، وعن نظرات الرجال في محطات المترو،
عن نظرات الوطن حين تعودين إليه أنثى ناجية.

كانت تقول لي:
“ما في شي اسمو نجاة ساكت… في شي اسمو انتصار، ولو كان بالبطيء.”

بدأت أكتب أكثر.
صرت أدوّن كل ما لم أقله في الخرطوم، وكل ما منعتني اللغة والخوف من قوله في القاهرة.
كتبت عن أختي التي ظلت تحرس الباب كي لا يقتحم أبي حجرتي.
عن أمي التي بكت، لا لأنها ضدي، بل لأنها كانت أضعف من أن تقف معي.

كتبت، وكنت أبكي، لكنني لم أكن أبكي الضعف… بل أخرج وجعي منّي، دفعة دفعة.
كنت أخفّ.
كنت أشفى.

وفي إحدى الأمسيات، بعد أن قرأتُ مقطعًا من مسودة كتابي الجديد أمام حضور فرنسي لا يفهم العربية،
وقفت امرأة وقالت بالإنجليزية:
“I didn’t understand your words, but I felt your pain.”

أدركتُ حينها أن الألم لا يحتاج ترجمة، فقط يحتاج أن نُخرجه من عتمتنا.

في باريس، لم أعد ضحية.
ولم أعد هاربة.
صرتُ راوية.
ولكل راوية، صوت… حتى لو جاء متأخراً.

تابعوا الفصل السادس من سلسلة “ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد”

زر الذهاب إلى الأعلى