رواية .. ما بين باريس والخرطوم… قلب لا يعرف الحياد

بقلم: د. ميادة الطيب البدوي
(الفصل الثاني: رسالة لم تُكتب)
مرت سنوات منذ خروجي من أم درمان، سنوات لم أتحدث فيها إلى أمي.
لا مكالمة، لا رسالة، لا حتى دعاء بصوتٍ مسموع.
كان الصمت بيننا أقسى من الغياب… وكان في قلبي سؤال واحد لم يهدأ:
هل غفرتِ لي يا أمي؟
كنت أفتح ورقة جديدة بين الحين والآخر، أكتب فيها:
“أمي الحبيبة، سامحيني…”
ثم أقطع الورقة، وأرميها، وكأنّي لا أحتمل أن ترى ضعفي، أو حزني، أو اعترافي بأني لم أكن جاهزة للفراق.
لكن الحقيقة التي لم أكتبها لها أبدًا، أنني لم أهرب منها، بل منها بدأت الرحلة كلها.
كانت أمي تشبه معظم الأمهات في جيلها، طيبة كالرغيف الساخن، حنونة إذا مرضنا، صارمة إذا بكت السمعة.
قالت لي يوماً:
“السترة أهم من الشهادة، والعريس الكويس ما بيتفوت.”
فقلت لها:
“وأنا؟
أنا أستحق أن أختار؟”
فبكت، ثم صمتت، ثم وافقتهم على تزويجي.
ذلك اليوم، لم أعد أنظر إلى عينيها.
لا لأنها كانت عدوي، بل لأنها خذلتني حين كنت أنتظر منها أن تكون ظهري.
في باريس، كنت أرى أمهات يمشين مع بناتهن في الحدائق، يتحادثن كصديقتين، يتشاركن الضحك، والسر، وحتى الحيرة.
وكنت أتساءل:
هل كان يمكن لأمي أن تكون صديقتي؟
أم أن جيلها لم يُمنح هذه النعمة أصلاً؟
كنت أحملها مسؤولية ما حدث، ثم أعاتب نفسي لأنني أعلم أنها لم تكن تملك حيلة.
كبرت أمي في زمنٍ كانت فيه المرأة تُربّى لتصمت، لتخدم، ولتنجو بالحد الأدنى من الكرامة.
وحين جاءت ابنتها متمرّدة، حالمة، وقارئة للكتب الخطرة… خافت.
أفهمها اليوم، لكنني لا أزال موجوعة.
فثمن ذلك الخوف دفعته وحدي… في المنفى، وفي غرف الانتظار، وفي شوارع الغربة.
أمي…
أردتُ أن أقول لك إنني سامحتك.
سامحتك لأنك لم تعرفي طريقًا غير الذي رسموه لك،
وسامحت نفسي لأنني فتحت الباب ومشيت، دون وداع.
لكني لم أرسل تلك الرسالة.
أظنني كنت بحاجة أن أكتبها هنا أولًا، أمامكم، على مرأى من وطنٍ لا يزال يجعل الأمهات يصمتن، والبنات يهربن.
أمي…
لو قرأتِ هذا، قولي لي فقط:
“ارجعي البيت متى ما تعبتي، الباب ما اتقفل.”
وأعدك، سأعود…
لكن هذه المرة، سأعود كامرأة لا تخاف أن تختار، ولا تخجل من أن تحكي الحكاية كاملة.


