جنا النيم ..

“العجوزة أُم بلوزة”
بقلم: علاءالدين يوسف سيد أحمد
أثناء جلوسي في كافيه بأحد فنادق بورتسودان المرموقة، والمشهورة بكونها من الأماكن التي يتجمّع فيها السياسيون والمسؤولون الحكوميون لمناقشة أحوال شعبنا المكلوم، المغلوب على أمره… كان ذلك اليوم يشهد مباراة .. أظنها بين برشلونة وريال مدريد .. وكان الكافيه يعجُّ بالشباب والشابات، والرجال والنساء، جميعهم منشغلون بتلك المباراة.
وفي خضم هذا الزحام، دخل رجل كهل يتوكأ على عصاه، بالكاد يستطيع المشي. ركّزت النظر فيه، فإذا به أحد القيادات السياسية الكبيرة والمعروفة، ويمثّل حزباً مرموقاً معروف بـ”بوخاته”.
تركت المباراة ، صببت جُل تركيزي على القيادي السياسي … جلس على إحدى الطاولات الفارغة، وهو يلهث أنفاسه بصعوبة من شدة التعب .. طلب عصيراً … ثم نام ، والله، نام وهو جالس.
“الجابرك شنو يا يابا؟!”
هنا .. “اشتغل الحس الصحفي” .. ماذا يفعل هذا القيادي هنا ؟! وماذا اتى به الى هذا الفندق في هذا الوقت المتاخر.. وبعد سؤال احد العاملين و”دردقته في الكلام” علمت ان الرجل يقيم في الفندق على نفقة الدولة، ولكنه في الاصل مقيم في مصر!! .. جاء ليحضر اجتماعات مهمة ليقرروا في شأن البلاد مع قادة مهمين ..
في السودان، حين تتحدث عن الأحزاب السياسية، فكأنك تتحدث عن “العجوزة أم بلوزة”… لا هي عايزة تتجدد البلوزة ، ولا قادرة تمشي بيها… حالها حال “عمنا الفوق دا ” …
أحزابنا، ومنذ عقود، توقفت عن النمو، توقفت عن الإنتاج، وتحوّلت إلى متاحف مفتوحة لعرض الأنجازات القديمة وصور المؤتمرات الباهتة وخطب الزعماء الذين لا يشيخون في صورهم، لكنهم خرفوا في الواقع.
زعيم الحزب في السودان لا يُنتخب، بل يُمنح الزعامة منحاً، ثم يجلس على الكرسي حتى يُقعده المرض أو يُقعده القبر.. بل إن بعضهم يُدير الحزب من على سرير المستشفى أو من خلف جدران النسيان، وما زال الأتباع يهتفون له ” عاش ابو هاشم” كأنه سيقود البلاد من غرفة العناية المكثفة إلى مصاف الدول المتقدمة !
الأزمة ليست فقط في الأفراد، بل في التربة السياسية نفسها.. السودان لم يعرف حياة حزبية سليمة منذ الاستقلال، وكل التجارب الديمقراطية كانت قصيرة ومقطوعة النفس، لا تتيح للأفكار أن تنضج، ولا للأجيال أن تتداول القيادة. . فكيف نُنتج أحزاباً حية في بيئة موت سياسي مزمن؟
أضف إلى ذلك التشوّه العميق في المجتمع، حيث تُقدَّم الطائفة على الوطن، والعائلة على الفكرة، والولاء الشخصي على البرنامج السياسي. لا عجب أن بعض الأحزاب ما تزال تتعامل بعقلية “الشيخ والمريد”، لا “القائد والعضو”. ولا غرابة أن شاباً عمره خمس وعشرون عاماً لا يجد مكاناً في صفوف القرار، بينما شيخاً في الثمانين يصرّ على صياغة بيان الحزب، ويفرض توقيعه على كل شاردة وواردة.
إنها أزمة جيل يريد أن يعيش بأفكار جده، في عالم تغيّر كل شيء فيه… حتى البلوزة التي كانت “العجوزة” تلبسها، تغيّرت عليها الموضة… إلا هي، ما زالت متمسكة بها.
ما لم يحدث تجديد حقيقي في بنية الأحزاب، وتداولٌ ديمقراطي داخلها، ومغادرة طوعية من الزعماء التاريخيين إلى منازلهم أو صفحات المذكرات… فإن السودان سيظل يراوح مكانه. وسنبقى نرقص حول نفس الشجرة اليابسة، ننتظر منها ثماراً لن تأتي.
نحن بلد شاب، ولكننا نُدار بعقلية كهلة، عاجزة عن الحركة، وعن الخيال، وعن الحسم. آن الأوان أن نُغلق هذا الفصل الحزبي الكئيب، ونبدأ فصلاً جديداً … فصل ثورة الشباب.
محبتي واحترامي..


