جدل التمويل الأجنبي لأحزاب سياسية
جدل التمويل الأجنبي لأحزاب سياسية
بقلم :د. ياسر محجوب الحسين
سمة الحياة السياسية الغالبة هي الصراع؛ ولكنه قد يتخذ أشكالا وأدوات مدمرة تقوض المجتمع والدولة. ولحصر الصراع السياسي في نطاق السلمية والقانون والحدود المقبولة، فلابد من دستور محترم ومؤسسات قوية تحميه. وقد يتفوق المجتمع السياسي على الدستور والقوانين المنظمة إن سادت الأخلاق في ظل إعلاء لقيمة الوطن والمجتمع. ولعل المجتمع السياسي وتنظيماته المختلفة هم الأكثر عرضة للوقوع في شباك إغراءات المتربصين بأمن واستقرار الدولة والمجتمع. فتُنصب شباك الاصطياد عبر المال الأجنبي المشروط بتنفيذ أجندته، ويظن من يقع في هذه الشباك أن المال هو الطريق المعبد للقضاء على الخصوم وأيسر من طريق الانتخابات الصعب الذي لا يجيد السير فيه إلا من استجاب برنامجه لتطلعات الناخبين.
ضجت الساحة السياسية السودانية الأسبوع الماضي بجدل كثيف حول اعتراف تنظيمات سياسية بتلقي دعم مالي من منظمات أجنبية وربما طغى على أخبار العمليات العسكرية بسبب التمرد على الدولة الذي تقوده مليشيا الدعم السريع. وقالت الناطقة باسم مجموعة «تقدم» في إفادتها التي فجرت الجدل، انهم يتلقون الدعم المادي لتمويل أنشطتهم السياسية من المعهد الديمقراطي الوطني الأمريكي المعروف اختصارا بـ”NDI”ومنظمة أخرى كندية وقالت انها منظمات غير حكومية تعمل على دعم الديمقراطية في الدول الافريقية. و»تقدم» هي ذاتها «قحت» تحالف الحرية والتغيير الذي تسيد الساحة السياسية بعد الاطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في ابريل 2019. ويذكر الناس أن «قحت» عندما كانت تحكم خلال فترة حكومة عبد الله حمدوك، أن نائبة مدير المعونة الأمريكية أحد أجهزة تجنيد الجواسيس، كانت قد أعلنت عن تخصيص 100 مليون دولار لمنظمات «قحت». كما خصص الأوروبيون 7 ملايين يورو سنوياً لحمدوك وطاقمه، باعتراف الذين عملوا مع حمدوك في مجلس الوزراء.
ومعروف أن العمل السياسي نشاط حساس جدا لا يجب أن يكون تمويله بغير اشتراكات العضوية أو من متبرعين وطنيين من العضوية أو عبر استثمارات مشروعة تتمتع بكامل الشفافية مثل إصدار الصحف ودور النشر، وذلك لارتباطه بالأمن الوطني. فحتى التمويل الذي يأتي من جهات داخلية يمكن أن يطعن في نشاط المؤسسة الحزبية فما بال الأمر إن جاء من منظمات وكيانات أجنبية؟ فلا يعفي أن الممول الأجنبي منظمة غير حكومية أو أنها تتدثر بعناوين براقة مثل دعم الديمقراطية والسلام. والمؤسسة الأمريكية التي ذكرتها المتحدثة باسم «تقدم» وهي ”NDI”، كان الغرض من إنشائها هو تنفيذ سياسات الحزب الديمقراطي الأمريكي في العالم عبر الأحزاب السياسية والمنظمات وترأسها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وكانت من أشد المؤيدين لغزو العراق وأعتبرت قتل الأطفال العراقيين ثمنا لتنفيذ سياسات بلادها في العراق. وعوضا أن يمول الحزب الديمقراطي الأمريكي الأحزاب السياسية والمنظمات في دول العالم بشكل مباشر كان معهد ”NDI” وسيطا ليرفع الحرج عن الأحزاب التي تمتد يدها لاستلام العون المقدم. ويذكر تقرير صحفي أن «كثيرا مما تقوم به المنظمات اليوم كان يتم في السابق بشكل سري على يد الاستخبارات المركزية الأمريكية». وكذلك الحزب الجمهوري الأمريكي لديه مؤسسة على نسق ”NDI” باسم المعهد الجمهوري للدولي تعرف اختصار بـ «IRI”.
إن الحساسية تجاه هذا النوع من التمويل لها ما يبررها عبر أمثلة وتجارب حية استخدم فيها هذا النوع من التمويل في أغراض سياسية، ومخابراتية. فتاريخ المخابرات المركزية الامريكية يحوي مئات الأمثلة المشبوهة عبر تمويل الانقلابات، والأحزاب والمؤسسات الإعلامية. لقد ظلت على الدوام الشروط السياسية للمساعدات الأمريكية هي أداة لتحقيق الإصلاحات السياسية الشكلية، ولم تسفر عن أي إصلاحات سياسية حقيقية. وفي كثير من الأحيان دعمت هذه المساعدات بقاء النظم القمعية الحليفة للولايات المتحدة التي جاءت إلى السلطة بالوسائل العسكرية وحافظت على وجودها بفضل هذه المساعدة ودعمت شرعيتها من خلال السماح بالتعددية الحزبية والمنافسة غير المتكافئة في الانتخابات التي شابها الكثير من الانتهاكات السياسية مثل التزوير وقمع المعارضة. إن للصـندوق الوطني للديمقراطية «NDI” تاريخا طويلا في التحريض على الثورات الملونة ضد البلدان المعادية. فقد كشفت وثائق مبكرة للصندوق الوطني للديمقراطية عن أنشطة قام بها الصندوق بشكل رئيسي في أوروبا الشرقية لهدم سلطة الدولة في وقت مبكر من أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. كما كان عاملا تمكينيا مهما وراء «الربيع العربي». ففي مصر واليمن والأردن والجزائر وسوريا وليبيا ودول أخرى، قدم الصندوق الوطني للديمقراطية دعما ماليا لأفراد وجماعات مؤيدة لأمريكا من خلال دعم أنشطة تدعي مناصرة المرأة وحرية الصحافة وحقوق الإنسان.
المراقبون السياسيون يجزمون بأن الولايات لا تهتم بتحقيق أي تحول سياسي في دولة من الدول إلا إذا كان هذا التحول يتفق مع مصالحها وأطماعها. ولذلك أتبعت سياسة انتقائية في تعاملها مع النظم في العالم الثالث لاسيما في الدول الأفريقية. بل كانت نتائج هذه السياسة دخول العديد من الدول الأفريقية في حروب أهلية وإقليمية، حيث حظيت بعض النظم التي تنتمي إلى جماعة أثنية بعينها بالمساعدات في مواجهة الجماعات الأخرى، وهذا ما أدى لتمزيق النسيج الوطني. ولتعلم التنظيمات السياسية في العالم الثالث وأفريقيا أن التحول الديمقراطي المنشود لا يمكن فرضه من الخارج، إذ أنه عملية تفاعلية وطنية ومخاض تجارب من واقع المجتمع المحلي، ولو صدق الممولون الغربيون، وهذا أمر مشكوك فيه تماما فإنه من الصعب تطبيق الاتجاه الديمقراطي الغربي على الدول الأفريقية والعالم الثالث، فلكل تطوره السياسي والاجتماعي الخاص به.