((همس الحروف) .. وداع بعد الرحيل أخي محمد منصور آدم)
☘️🌹☘️
✍️ الباقر عبد القيوم علي
لا زلت و معي رهط من الأحبة جمعتنا مراتع الطفولة البرئية وملاعب الصبا في بواكير حياتنا ، و قد برَّح الشوق بنا إلى ذكريات مليئة بالحن و الحنين تفاصيلها كثيرة إزدحمت بها خلجات صدورنا و لم تغب عنا لحظة من اللحظات وكأن الحياة قد توقفت عندها ، لأن وضوح حروفها التي كانت منقوشة علي حواف سطورها ما زالت محفور في دواخلنا النقية و المربوطة برابط من الرحمن الذي جمع بيننا بصدق الأخاء و نقاء السرائر التي ألف الله بها بيننا داخل قوسي (رب أخ لم تلده أمك) فلم يكن هنالك ما يزحم حياتنا أو يكدر علينا صفوها ، فكنا نعيش بدون تدقيق في تفاصيلها التي كانت تنعدم عندها الفواصل الطبقية التي تكون مبنية على قدرية قسمة الأرزاق حسب المنح الربانية فلم نرى فينا غنياً ترفّع علينا و كما لم يكن الفقر عاهة ينفر البعض منها ، و لذلك كانت الحياة سهلة تكسونا أكاليل من الورود و روح التكافل الممزوجة ببراءة الفكرة التي جمعتنا ببياض نفوسنا و نقاء قلوبنا الصغيرة و الجميلة ، فلم يكن هنالك ما يكدر صفونا من كل أمراض المجتمع الحديثة ، و ها نحن وقوفاً على أرصفة الإنتظار نبحث بين الوجوه و نترقب وجود أجملها ، فسجل غياب أخونا محمد منصور آدم بشر حضوراً حزيناً لسمو روحه إلى جنات عرضها السماوات والأراض ، فلم يدع لنا في يوم رحيله غير جسده الطاهر الذي آواه ذلك القبره الصغير في مدافن مقابر مدينة كوستي ، و قد قدره الله له ليكون لنا و لغيرنا من الأحياء شاهداً على نفاذ أمر الله في خلقه ، فلم يدع لنا فرصة للتخيير أو التفضيل فأجبرنا رغم أنفنا لنركب على ظهر قطار الأحزان الذي قطعاّ سيحملنا الى محطة الفراق عند منعطف رحيل الرفاق لتزرف الدموع عليه سجية ، و قطار الشوق و الحنين في (الإنتظار) ولا زلنا على أرصفة المحطة نترقب موعد رحيلنا نحن و الذي لم يحن بعد ولكنه قد إقترب لا محال ، ليحملنا إلى محطات تتنتهي عندها الآجال في رحلة أبدية بلا حقائب أو أهل ، نحو مظلة من مظلات الرحمن التي وعد بها المتحابين فيه بأن يظلهم تحت ظلها يوم لا ظل إلا ظله .
فما زال وجع الرحيل يدق بكل قوته داخل صدورنا ونأمل أن يوماً ما سنشفى منه و لو بالنسيان و لكننا قد علمنا أن الذكرى ما هي إلا ناقوس يدق في عالم النسيان ، و لذلك تتجدد عندنا مظاهر الحزن النبيل كلما زارنا طيف من ذكرياته أو حكى لنا أحد عنه ، أو لمحنا وجه أحد الأحبة الذين كانوا معنا ، فيقودنا ذلك إلى عالم آخر غير الذي يعيش فيه الناس ، فتحلق بنا الأحزان في فضاءت الأخاء لتعرفنا بفرضية شرف الإنتماء لمثل هذه العلاقات و لتحدثنا بعظمة هذا الرجل الذي كرمه الله حياً و ميتاً يأن جمع الأحبة معه و ما زال الإصطفاف يزيد حوله ، فمنذ نعومة أطافره كان باب بيته مفتوحاً لنا جميعاً فلم نطرقه يومياّ واحداً من أجل أخذ إذن الدخول إليهم فكان كل أهله يفرحون بلقائنا و نفرح نحن كذلك بهم لأنهم كانوا يعشقون الإخاء و يحبون أن يوصلوا لنا حقيقة إيمانهم بقوله تعالى (وجعلناكم شعوباّ وقبائل لتعارفوا) و ليتصدقوا علينا بنثر بسماتهم الخافتة على رؤوسنا وها قد عرّفنا أنفسنا بهم و تعرف بنا إخوانه ذكي ، فتحي و أحمد و أخريات كن يجلسن في خدورهن قد لا أعرف أسمائهن ولكني أذكر أفعالهن حينما كن يتسابقن لخدمتنا ونحن ضيوف في بيتهن و ما زلن على ذلك العهد والوعد الذي ربى به منصور أبنائه ، فهذا هو سر جمال قلب محمد منصور الذي كان دائماّ يزين لنا أركانه بشموع الأخاء المتقدة منذ أن عرفناه ، فيا وجع الفراق الذي توسط قلوبنا و قد صرت رغماً عن أنفنا منذ رحيل محمد خليلنا ، فقل لنا بالله متى تنوي الرحيل عنا ، أما ترى كيف استكان الدمع في أجفاننا فهُلكت أبداننا .
الموت حوض يرد الجميع إليه حسب الأعمار والآجال التي يقدرها الله تعالى كما يشاء ، و لقد شاء الله أن يسبقنا محمد منصور و يترجل عن صهوة جواده و يتقدم صفوفنا عند ما أذن الله له بورود ذلك الحوض إستجابة لقدر الله ، و لقد سلمنا بالقضاء و القدر و ما زالت قلوبنا يعتصرها الألم و عيوننا تزرف الدموع السجية ، و لكن لا نقول إلا ما يرضي الله و رسوله ، سائلين المولى عز وجل أن يتقبله في منازل الأنبياء والشهداء و الصدقين ، وأن يبدله الجنة بدون حساب أو سابق عقاب ، وأن يتقبل كل ما قدمه في سبيل إرضاء ذاته برفع درجته في عليين في صفوف النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وأن ينزل غيثاً من السماء على قلوب أهله المكلومين و أن يطفىء بها حرقة صدور المحبين ،و ان يجمعنا به في ملتقى رحمته يوم الدين يا رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و إنا لله وإنا إليه راجعون .